جنوب لبنان … سلعة!

لا يزال هناك للأسف الجديد من يعتبر جنوب لبنان سلعة. لا يزال هناك من يتعمّد الإساءة إلى القوة الدولية المرابطة في تلك المنطقة منذ العام 1978 والتي تحوّلت إلى قوة دولية «معززة» منذ حرب صيف العام 2006. هناك باختصار من يصرّ على خدمة إسرائيل بطريقة أو بأخرى. لم تكن إسرائيل يوما تريد الاستقرار في جنوب لبنان. ربما أرادت الانتقام من القرار الحكيم الذي اتخذه لبنان في العام 1967 عندما رفض دخول الحرب، فحرمها من مبرر لاحتلال جزء من الجنوب.
ارتكب العرب ما عجزت إسرائيل عن ارتكابه. فرضوا على لبنان في العام 1969 توقيع «اتفاق القاهرة» المشؤوم الذي جعل جزءا من الأرض اللبنانية خارج سلطة الدولة وسيادتها. ألقوا بالمقاتلين الفلسطينيين في ما كان يسمّى «فتح لاند» كي يكون جنوب لبنان الجبهة الوحيدة المفتوحة مع إسرائيل في حين اغلقت كل الجبهات العربية الأخرى بما في ذلك جبهة الجولان.

أراد العرب التكفير عن ذنوبهم أمام شعوبهم بعد الخطأ القاتل الذي ارتكبوه في العام 1967. أرادوا التعويض عن الهزيمة التي الحقتها بهم إسرائيل عن طريق الانتقام من لبنان واللبنانيين وكأنّ الانتصار على لبنان بديل من الانتصار على إسرائيل!
استطاعت مصر استعادة أراضيها المحتلة عن طريق المفاوضات. استطاعت الأردن، بفضل الحسّ السياسي الذي لا مثيل له للملك حسين، رحمه الله، استعادة حقوقها في الأرض والمياه في العام 1994 مع توقيع اتفاق «وادي عربة» مع إسرائيل. كان في استطاعة الأردن فعل أكثر من ذلك بكثير تنفيذا للقرار الرقم 242 الصادر عن مجلس الأمن. لكنّ العرب كانوا أصرّوا منذ العام 1974 في «قمة الرباط» على أن «منظمة التحرير الفلسطينية» هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. لم يتوقف الزعماء الذين جمعتهم القمة عند نقطة مهمة، بل أساسية، تتمثل في أن الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، كانت عندما احتلتها إسرائيل في العام 1967 تحت السيادة الأردنية.أجبر العرب الأردن على دخول الحرب عن طريق المزايدات والخداع. مع ذلك، كانت المملكة الأردنية الهاشمية، بعد حرب 1967، في وضع قانوني أفضل مئة مرة من «منظمة التحرير الفلسطينية» في أي مفاوضات في شأن مستقبل الضفة الغربية نظرا إلى أنها معنية مباشرة بأرض احتلّت عندما كانت تحت سيادتها. أما «منظمة التحرير»، فإنّ مشكلتها تكمن في أنها لم تكن يوما دولة وهي تحتفل اليوم، في السنة 2011، بأنها أصبحت عضوا كامل العضوية في الأونيسكو!
كان في الإمكان ترك الأردن تسعى إلى استعادة الأرض وتسليمها لاحقا للفلسطينيين الطامحين إلى أن تكون لهم دولتهم المستقلة. الدولة المستقلة حق لا يختلف في شأنه مواطنان عربيان يمتلكان حدّا أدنى من العقل والتعقل. لكنّ العرب، على رأسهم النظام السوري، شاؤوا المتاجرة بالفلسطينيين وقضيتهم على حساب لبنان واللبنانيين وكأنهم يريدون من لبنان دفع ثمن استخدام العقل والتعقل للمحافظة على أرضه كما فعل في العام 1967.

من يستعيد تطور الأحداث في جنوب لبنان منذ العام 1969، يكتشف أن الخيط الرفيع الذي يربط بينها هو الرغبة الإسرائيلية في أن تكون المنطقة خارج سلطة الدولة اللبنانية. هناك حلف غير مقدس بين كل الساعين إلى استمرار حال اللا حرب واللا سلم في المنطقة عن طريق إبقاء جبهة جنوب لبنان مفتوحة. في الماضي كان هناك اتفاق ضمني في هذا الشأن بين النظام السوري وإسرائيل. في الوقت الحاضر هناك اتفاق ضمني آخر بين إسرائيل من جهة والمحور الإيراني- السوري من جهة أخرى، وذلك بعدما أصبح الجنوب تحت سيطرة مقاتلي «حزب الله» الذي مرجعيته في طهران وليس فيّ مكان آخر.

هل مكتوب على أهل الجنوب البقاء تحت رحمة الحلف الإقليمي غير المعلن الساعي إلى إبقاء هذه المنطقة اللبنانية بالذات في حال تراوح بين الغليان والتوتر؟ يبدو أن ذلك وارد جدا. لم يتغيّر شيء في جنوب لبنان منذ ما يزيد على خمسة وثلاثين عاما. ففي العام 1976، عندما حصل النظام السوري على الضوء الأخضر الأميركي بدخول لبنان عسكريا بهدف وضع يده على المسلحين التابعين لـ «منظمة التحرير الفلسطينية»، أعطت إسرائيل موافقتها على ذلك. كان الأميركيون، عبر هنري كيسينجر بالذات، يريدون وقتذاك أن تشمل عملية الانتشار العسكري السوري كلّ مناطق الوجود الفلسطيني المسلح. وافقت إسرائيل على ذلك في البداية، لكنها ما لبثت أن فرضت ما يسمّى «الخطوط الحمر». كان أهمّ ما في «الخطوط الحمر» بقاء القوات السورية خارج الجنوب اللبناني. توقّف السوريون بقدرة قادر عند نهر الأولي…

استنادا إلى ديبلوماسي أميركي رافق تلك المرحلة عن كثب، كانت الحجة التي ساقتها إسرائيل أنها في حاجة إلى «الاشتباك مع الفلسطينيين بين وقت وآخر». رحل المسلّحون الفلسطينيون من جنوب لبنان في العام 1982. كان لدى إسرائيل في مرحلة معينة مشروع مختلف يشمل كلّ لبنان. عندما فشل هذا المشروع لأسباب عدة يحتاج شرحها إلى كتاب، عادت إلى استراتيجيتها الأصلية التي أقرّت في العام 1976. بوجود المسلحين الفلسطينيين أو في غيابهم، لم يتغيّر شيء في جنوب لبنان.
مثلما همّشت القوة الدولية في العام 1978، يبدو مطلوبا تهميش القوة الدولية «المعززة» التي انتشرت بعد حرب صيف 2006.
نعم، لم يتغيّر شيء في جنوب لبنان في غياب الوعي اللبناني الشامل لأهمّية وقف المتاجرة بالجنوب وأهله وضرورة استعادة تلك المنطقة الغالية وضعها الطبيعي بعيدا عن المزايدات والشعارات الفارغة. ولكن ما العمل، عندما تكون هناك أطراف لبنانية لا تريد أن تعترف بأنّ لبنان حافظ على أراضيه في العام 1967 لأنّه استخدم عقله أولا رافضا ان يضع مصلحة أي طرف آخر فوق مصلحته؟  

السابق
الاخبار: تصحيح الأجور على جلسة الأربعاء مجدّداً
التالي
نحن وسوريا