السوق الموازية مخرج لبطالة اللبنانيين

لا يختلف اثنان في لبنان على أنّ السوق الموازية أو غير النظامية تحتجز حصّة اقتصادية ضخمة تكاد أن توازي تلك الخاضعة لمراقبة السلطات الرسمية. فالنشاطات والأعمال المزدهرة التي تنشأ بعيداً من الأطر القانونية أصبحت واقعاً يمكن كلّ مواطن أن يلمسه أو حتّى أن يشارك فيه. إلا أنّ تأكيد هذه الظاهرة، عبر الدراسة الجديدة التي أعدّها البنك الدولي بالتعاون مع وزارة العمل في الحكومة اللبنانية ضمن برنامج «Miles»، شكّل محطّة مفصلية لإظهار حجم السوق غير النظامية والتي باتت تحتضن الفئات الشبابية في شكل خاص، بعدما وصلت نسبة البطالة ضمن فئة متخرّجي الجامعات الذكور إلى 14 في المئة وبين الإناث إلى 18 في المئة.

والمُعطى الأول الذي أضاءت عليه الدراسة هو أنّ نصف القوى العاملة في لبنان عاطل من العمل أو يعمل في السوق الموازية. وبالنظر إلى دراسة أعدّها حديثاً الدكتور رياض طبّارة في مركز الدراسات والمشاريع الإنمائية (MADMA) فإنّ نسبة الشباب بين 15 و29 عاماً يشكّلون نسبة 41 في المئة من مجموع القوى العاملة في لبنان. وبالتالي، فإنّ الفئة الشبابية هي المعنية في شكل مباشر في الاقتصاد المخفيّ الذي ينشأ ويتطوّر بعيداً من الرقابة الحكومية. وللتدقيق أكثر في مجالات السوق الموازية، فإنّ دراسة البنك الدولي أظهرت أنّ العاملين في هذه السوق يتركّزون في الإنشاءات والزراعة والصناعة، إذ هناك 63 في المئة من العمّال الزراعيين غير المصرّح عنهم و55 في المئة من عمّال الصناعة إضافة إلى 76 في المئة من عمّال البناء و49 في المئة من العاملين في القطاعات ذات القيمة المرتفعة.

الوقائع التي أظهرتها بوضوح الدراسة الحديثة للبنك الدولي توجّه الأنظار اليوم إلى الاقتصاد الذي يُسمّى بـ «الرماديّ» والقادر على جذب الشباب إليه من خلال الإغراءات المادية من دون أن يؤمن لهم الاستقرار الاجتماعيّ الذي يحتاجون إليه لبناء مستقبلهم. إلا أنّ جمع الشباب العاملين كلّهم في السوق النظامية ضمن فئة واحدة غير ممكن. فهناك مجالات مختلفة يمكن العمل ضمنها، ومنها ما يبقى في أطر الأعمال الشرعية ومنها ما يتجاوز الحدود الرمادية إلى «السوق السوداء». فالشاب كميل، الذي يُفضّل عدم الكشف عن اسمه كاملاً خوفاً من الملاحقة القانونية، بلغ الخامسة والعشرين من العمر وهو يعمل في مجال واحد منذ أن تخرّج في جامعته وهو نظرياً «هندسة الكومبيوتر»، وعملياً قرصنة البرامج الإلكترونية واستنساخها وتزويرها إضافة إلى الأفلام وأقراص الأغاني. ويؤكد كميل أنّه بحث كثيراً عن وظيفة قبل أن ينتقل إلى السوق غير النظامية، إلا أنّ الرواتب التي تقدّمها الشركات لا تكفيه ما دفعه إلى الاستفادة من مهاراته الإلكترونية لتأمين مدخول مرتفع، خصوصاً أنّ هناك إقبالاً كبيراً على كلّ المواد الإلكترونية المزوّرة أو المستنسخة.

كريم كما غيره من الوافدين الجدد إلى سوق العمل في لبنان اصطدم بفرص العمل المحدودة جداً ولا تناسب المهارات الجامعية التي اكتسبها. وهذا ما أكدته دراسة البنك الدولي، إذ أشارت إلى أنّ المعدّل الزمني لإيجاد عمل بين حاملي الشهادة الجامعية هو سنة ونصف السنة، أي أنّ المتخرّج سيبقى فترة طويلة نسبياً عاطلاً من العمل ما يدفعه إلى البحث عن مخرج سريع عبر السوق الموازية.

إلا أنّ بعض الشباب لا يلجأ إلى أي عمل يمكن أن تطاوله الملاحقة القانونية في شكل مباشر إنما يعمل من خلال مؤسسات أو ينشئ أعماله الخاصة من دون التصريح عن نشاطاته وهذا ما يعني أنّه لا يدفع أي ضريبة على دخله وهو ما يُعرَف بالتهرّب الضريبيّ. وفي هذا السياق، اعتبر المستشار الماليّ والمصرفيّ والأستاذ في الجامعة اللبنانية محمد سليم وهبة خلال محاضرة ألقاها في «المؤتمر الثاني للشبكة العربية لتعزيز النزاهة ومكافحة الفساد»، أنّ «التهرّب الضريبيّ آفة تحرم القطاع العام من الواردات وتنعكس على المواطن عندما تنتقص بنتيجتها الخدمات العامة التي تقدّمها الدولة».

بالتالي فإنّ دخول الشباب في السوق الموازية عبر الأعمال غير المصّرح عنها له تأثيرات سلبية على المدى البعيد في النظام الاقتصاديّ اللبنانيّ، خصوصاً أنّ هناك رغبة متزايدة في الاتجاه نحو هذه السوق لدى الشباب.

لكن أكثر ما يشجعهم على دخول العمل الخاص هو الاستقلالية وارتفاع الدخل الذي يشجعهم على العمل أكثر، وهو ما أشارت إليه دراسة البنك الدولي، التي حددت هذه النسبة بـ64 في المئة من العاملين في السوق غير النظامية. ويصعب على الشباب الذين يحقّقون مداخيل مالية مرتفعة نسبياً في السوق الموازية العودة إلى الإطار المؤسساتي للشركات.

ويقول مروان حراجلي، الذي يدير عملاً خاصاً عبر الإنترنت في مجال التجارة الإلكترونية، إنّ هناك مزايا كثيرة للسوق الموازية حيث يجد الشاب سبلاً مُبتكرة لتحقيق الأرباح بدل أن يكتفي براتبِ شهريّ محدود في وقت ينحصر الحدّ الأدنى للأجور بـ500 ألف ليرة لبنانية (333 دولاراً) فقط لا غير.

لكن الاتجاه نحو السوق الموازية غير النظامية لا يخلو من المشاكل بالنسبة للشباب، فأول العوائق هو عدم توافر أية ضمانات اجتماعية أو صحيّة وبالتالي يضطرون إلى اللجوء الى شركات التأمين الخاصة ما يكلّف مبالغ مرتفعة تصل إلى مئة وخمسين دولاراً شهرياً. كما أنّ أي خسارة يتحمّلها الشخص بنفسه من دون أن يكون هناك مؤسسة قادرة على احتوائه ومنع العوز الماليّ عنه.

ويؤكد عمر كرم، الذي يملك حفارة، أنّ المشكلة بالنسبة للشاب العامل في السوق الموازية تبدأ حين يحتاج لتقديم طلب قرض أو القيام بأية معاملة رسمية تتطلّب منه التصريح عن دخله. لذا فإنّ هذا النوع من العمل يمكن أن يكون موقتاً، لكن المسؤوليات التي تُفرَض على الشباب تتطلّب منهم العودة إلى السوق النظامية أقلّه عبر التصريح عن مداخيلهم إلى وزارة المالية ليكون لديهم جدول مالي رسمي.

وإذا كان اللوم يوجّه إلى الشباب اللبنانيين لاتجاههم نحو السوق الموازية بدل النظامية، فالأزمة الأساسية لا تكمن في الخرّيجين أو الباحثين عن عمل إنما في السياسات الاقتصادية المتبعة والتي تخلق اليوم 3400 فرصة فقط في حين أنّ دراسة البنك الدولي تؤكد الحاجة الى 19 ألف وظيفة خلال السنوات العشر المقبلة من أجل استيعاب الوافدين الجدد إلى سوق العمل، أي 5 أضعاف ما يتمّ إنجازه اليوم.  

السابق
نطرد الاحتلال ونتفرّغ للاقتتال
التالي
وفدا فتح وحماس بحثا بـجدية آليات تنفيذ المحاور الخمسة الواردة في الورقة المصرية