أميركا: ربيع السلفيّين يَصدُمُنا

هل كان هناك دعم أميركي واضح وثابت لانطلاق «الربيع العربي»، أم أنّ واشنطن اضطرّت الى الاندفاع خلف الحراك الشعبي عندما أصبح مؤكّداً سقوط حليفيها المصري والتونسي؟
واستطراداً، هل يمتلك الأميركيّون تصوّراً للمرحلة المقبلة من الثورات وما بعدها، ولا سيّما في سوريا؟ أم إنّهم يتّبعون سياسة الخطوة خطوة، ويطوّرون مواقفهم وفقاً للمعطيات في كلّ لحظة؟ شخصيّات لبنانيّة وعربيّة عادت أخيراً من العاصمة الأميركيّة بأجواء تلقي الضوء…

فيما كان مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى جيفري فيلتمان يجري لقاءاته في بيروت أخيراً، هبط فجأة في دمشق سفيرا الولايات المتحدة وفرنسا، بعد غياب لأسابيع. واختلفت التفسيرات والتبريرات لذلك بين الإيجابي والسلبي.

لكنّ اللافت كان التزامن بين عودة السفيرين والتمديد للمبادرة العربية وانطلاق الوساطتين الروسيّة والعراقية و"هدوء" تركيا: هناك فرصة لإنجاز الملفّ السوري في أقلّ ما يمكن من أضرار وتداعيات.

في هذه الأثناء، كانت شخصيّات لبنانية وعربية في واشنطن تجري لقاءات مع مسؤولين في الإدارة، وخصوصا في وزارة الخارجية، مستوضحة التصوّر إزاء مجريات "الربيع العربي"، ولا سيّما في محطّته الحاليّة، أي سوريا.

هذه الشخصيّات لمست ما يأتي:

1- هناك صدمةٌ أصابت دوائر في الإدارة، ومنها في الخارجية، من نتائج الانتخابات المصريّة الأخيرة. فهي أعطت التيّارات السلفية تقدّماً. ولم يظهر حضور فاعل للقوى العلمانيّة الديموقراطيّة. واستخدم بعض المسؤولين عبارة "الخريف العربي" تدليلاً على انطباعاتهم إزاء هذه المسألة.

فواشنطن دعمت حراك الشعوب نحو الديموقراطية وحرّية الممارسة السياسية، وإن لم تكن في أساس انطلاقه، وعلى رغم أنّ هذا الحراك بدأ أوّلاً في دولتين (تونس ومصر) فيهما نظامان حليفان للولايات المتّحدة. وقد استندت واشنطن الى معطيات تشير الى أنّ القوى الديموقراطية التي تتناغم مع الغرب، سيكون لها دور فاعل في مرحلة ما بعد الثورة. ولكن، تبيّن اليوم أنّ مستقبل مصر سيكون رهينة للإسلاميّين. والنموذج المصريّ يقلق واشنطن والغرب لما يؤدّي اليه من مخاطر مستقبليّة على المنطقة.

2- ثمّة اعتقاد بأنّ العراق مقبل على مرحلة داخليّة صعبة، على كلّ المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية، بعد خروج القوات الأميركيّة منه مع نهاية هذه السنة. ويترقّب الأميركيّون تطوّر الملف السوري انطلاقاً من المعطيات التي يستتبعها الملفّ العراقي.
 3- الأميركيّون مقتنعون بخيار التغيير في سوريا. وهم يحسمون أنّ خروج الرئيس بشّار الأسد من السلطة يجب أن يتمّ أخيراً، استناداً الى المسار الديموقراطي إيّاه الذي فرضته الثورات في أماكن أخرى. لكن القلق الذي يميّز الوضعين المصري والعراقي يدفع الى التأنّي في اتّخاذ الخطوات، بحيث تأتي بأقلّ ما يمكن من الأضرار. لذلك يحاول الأميركيّون بذل مساعيهم لتمرير الوساطات العربيّة والروسيّة، وإقناع المعارضة السوريّة بقبول تسويات على الطريقة اليمنيّة. لكن المشكلة تكمن في رفض الرئيس بشّار الأسد هذه الوساطات، ما يثير الخوف من اندلاع مواجهة أهليّة دموية، وانتقال المعارضة إلى العنف. فالأميركيّون يتمسّكون بالتغيير في سوريا، ولكنّ النموذج السلفيّ في مصر لا يريحهم، ونموذج الفوضى العراقيّة يقلقهم.

وسمع البعض كلاماً عن الخشية من الفوضى في سوريا، ما يمنح القوى الإرهابيّة "الممسوكة" فرصة لتمتلك أرضاً ملائمة للتحرّك. وهذه الاحتمالات تشكّل أيضاً هواجس لإسرائيل، على رغم الموقف الذي يعبّر عنه وزير الدفاع إيهود باراك، والداعي في قوّة إلى إزاحة الأسد.

4- تؤشّر مراكز أبحاث ودراسات إلى أنّ ظاهرة النموّ السلفيّ في بلدان "الربيع العربي" يمكن التصدّي لها من خلال خطّة دعم اقتصادية رائدة للمنطقة، على غرار "مشروع مارشال"، بعد الحرب العالمية الثانية، عِلماً أنّ الأميركيّين استفادوا من هذا المشروع يومذاك بفتح أسواق جديدة لهم في أوروبّا، أخرجتهم من الركود. فحال الفقر والتخلّف تشكّل أرضاً خصبة لنموّ التيّارات السلفيّة. لكن الأزمة الاقتصادية التي تضرب الولايات المتّحدة وأوروبّا تَحُول دون تدخّل اقتصاديّ دولي من هذا النوع. وليس في برنامج الإدارة الأميركيّة تقديم دعم ماليّ لأوروبّا المأزومة، وهي بالأحرى لا تمتلك خطة للدعم في الشرق الأوسط.

5- في ما يتعلّق بلبنان، يبدو الأميركيّون أكثر قبولاً مرحليّاً بـ"الستاتيكو" القائم، وارتياحاً إلى الرئيس نجيب ميقاتي بعد تمويل المحكمة الدولية. وثمّة انطباع بأنّ الحكومة الحاليّة نالت رضى أميركيّاً كانت تفتقده من قبل، لأنّ رئيسها يَفي حتى اليوم بوعوده للمجتمع الدولي.

وينقل زوّار واشنطن عن مسؤوليها استعداداً أكبر لتسليح الجيش اللبنانيّ، لأنّ المخاوف من وقوع السلاح في أيدي مجموعات خارجة عن سلطة الدولة لم تعُد مبرّرة الى حدّ ما، في ظلّ المعطيات القائمة حاليّاً في لبنان والمنطقة.

الثورات وأبناؤها والشعارات

إنطلاقاً من هذه القراءة التي تجريها هذه الدوائر في الإدارة الأميركيّة للثورات العربية، يمكن الحديث عن وضوح أميركيّ في الأهداف الإستراتيجية، المتمثلة بتعميم السلوكيات الديموقراطية وتجفيف منابع الإرهاب والحفاظ على المصالح الاقتصادية الكبرى، وأبرزها منابع النفط، والسلام مع إسرائيل. لكن ذلك يقابله حذر، بل اضطراب في الآليّات التي يمكن أن تحقّق هذه الأهداف. وهذا الاضطراب قد يصل إلى تهديد الأهداف عينها. وهنا يكمن تحدّي "الربيع العربي"، الذي هو ـ في نظر واشنطن – أوّلاً وأخيراً مسؤوليّة الشعوب، لا المجتمع الدولي. فالثورات تُصنَع ولا يتمّ إستيرادها. لكنّ الثورات في دول العالم الثالث غالباً ما تأكل أبناءَها… وشعاراتها! 

السابق
لم نكن قط أقبح
التالي
انتهاء الاجتماع الماروني الموسع في بكركي