أزمة كيان ونظام… في سورية!

لا يمكن في أي شكل تغطية الأزمة العميقة التي تمر بها سورية، وهي أزمة نظام وكيان في الوقت ذاته، عن طريق تصريحات من نوع تلك التي أدلى بها أخيرا الرئيس بشّار الأسد إلى محطة اميركية. كشفت تلك التصريحات أن الرئيس السوري يعيش في عالم آخر لا علاقة له من قريب أو بعيد بما يدور على الأرض.
لكن هذه التصريحات كشفت أيضا الحاجة إلى أن تعود سورية يوما ما دولة طبيعية، دولة قادرة على الاعتراف بمشاكلها الحقيقية وتعمل على حلّها بدل الهرب المستمرّ منها. من هذا المنطلق، يمكن القول إن الكلام الصادرعن الدكتور برهان غليون، الوجه الأبرز في المعارضة السورية، عن مستقبل علاقة بلده بإيران كلام صحّي. هناك للمرّة الأولى سياسي سوري يتحدّث عن الواقع ويرى أن ما يسميه بعض الجهلة «أوراقا» في يد سورية ليست في طبيعة الحال سوى أثقال يتحمّلها البلد وينوء تحت عبئها كل مواطن سوري…
تشكّل طبيعة العلاقة بين دمشق وطهران، بشكلها الحالي، تعبيرا صارخا عن عمق الأزمة التي يمرّ بها الكيان السوري منذ الاستقلال. أكثر من ذلك، تعطي هذه العلاقة غير الطبيعية فكرة عن المرحلة الخطيرة التي بلغتها الأزمة السورية التي تحوّلت في السنوات الثماني والأربعين الأخيرة، أي منذ تولّي «البعث» السلطة، إلى أزمة كيان وأزمة نظام في آن.
من يتابع تطور سورية منذ الاستقلال يكتشف أن أزمة الكيان السوري اختلطت في مرحلة معيّنة بأزمة النظام لتنتهي بتحويل سورية كلها مجرّد تابع لإيران. صار على النظام في سورية الاستعانة بميليشيا إيرانية موجودة في لبنان، بفضله أولا، لسدّ الفراغ الأمني الذي خلّفه الانسحاب العسكري من البلد الجار في ابريل 2005 نتيجة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه. وفي السنة 2011، لم يعد أمام النظام السوري من خيار غير الاستعانة بسلاح «حزب الله» الإيراني كي يسقط حكومة الرئيس سعد الحريري ويفرض حكومة بديلة من صنع «حزب الله» ولا أحد آخر غير الحزب…هناك الآن في سورية من يفكّر بطريقة مختلفة. يفكّر في كيفية استعادة السوريين خصوصا والعرب عموما لسورية وتخليصها من عقدة الدور الإقليمي. هذا الدور ليس في واقع الحال أكثر من وهم جلب على السوريين الويلات، وجعلهم يضيعون بلدهم الذي يمتلك ما يكفي من الثروات الكفيلة بتحويله إلى دولة متقدمة على كل صعيد. تكفي ثروة اسمها ثروة الإنسان السوري الذي استطاع أن يبني في لبنان ويساهم في ازدهار الوطن الصغير على الرغم من كل ما تعرّض له لبنان في السنوات الأربعين الماضية من ظلم ذوي القربى أولا. في الإمكان أيضا الحديث عن مئات السوريين الناجحين في دول الخليج العربية وفي أوروبا والولايات المتحدة وكندا ودول أميركا اللاتينية. لماذا لم يوجد بين هؤلاء من يستثمر في سورية، باستثناء قلّة تحالفت مع النظام ودخلت في شراكة مع أركانه لتوفير الحماية ليس إلاّ!
كلام برهان غليون عن مستقبل العلاقة بإيران و«حزب الله» و«حماس» أكثر من صحّي. إنه كلام سليم يصب في مصلحة الشعب السوري أولا، وفي العودة إلى الاهتمام بالشأن السوري من زاوية أخرى تختلف كليا عن نظرة النظام إلى سورية والسوريين.
لا يستطيع أي عربي عاقل تجاهل أن إيران دولة كبيرة في المنطقة. ولكن ليس في استطاعة أي عاقل أكان عربيا أو غير عربي إلا التساؤل: ما الذي لدى النظام الإيراني يقدّمه لدول المنطقة غير تصدير الغرائز المذهبية والعمل على إثارتها. ولا يستطيع أي عاقل تجاهل أن عناصر «حزب الله» لبنانية، ولكن لا يستطيع أي عاقل أيضا تجاهل أن كلّ ما فعله «حزب الله» حتى الآن هو تعميق الشرخ بين الطوائف والمذاهب في لبنان بغية تمكين المحور الإيراني- السوري من استخدام الوطن الصغير «ساحة» لا أكثر!
كلّ المطلوب أن تكون هناك علاقة طبيعية بين أي دولة من دول المنطقة من جهة وإيران من جهة أخرى. إيران موجودة في المنطقة شئنا أم أبينا وهي تمثل حضارة كبيرة ذات جذور راسخة. هذا واقع. لكن الواقع شيء وتحول هذه الدولة أو تلك تابعة لإيران شيء آخر.
مرّت سورية منذ الاستقلال بمراحل كثيرة. شهدت في العام 1949 أول انقلاب عسكري في المنطقة بعد حصول دولها على الاستقلال. وشهدت أول وحدة بين دولتين عربيتين في العام 1958. كانت الوحدة المصرية- السورية تجربة فاشلة نظرا إلى أنها لم تقم على أسس علمية بمقدار ما أنها كانت تعبيرا عن هرب سوري من أزمة داخلية راحت تتفاقم بسسب العجز عن إقامة مؤسسات ديموقراطية قابلة للحياة.
حصل الانفصال في العام 1961، لكن عملية الهروب إلى أمام استمرّت. جاء «البعث» في العام 1963. كان مدنيا في البداية وما لبث أن تحوّل عسكريا. كان مجيء «البعث» تغطية لانقلاب عسكري قادته مجموعة من الضباط اشتهروا بالمزايدة على بعضهم البعض، فكان التوريط السوري لجمال عبدالناصر في حرب العام 1967. تلك الحرب التي لا تزال نتائجها تتفاعل حتى الآن.
لا حاجة إلى ذكر أن النظام العسكري تحول تدريجا إلى نظام طائفي، ثم إلى نظام طائفي تتحكّم به عائلة واحدة ابتداء من العام 1970، وصولا إلى نظام لا مكان فيه سوى للعائلة ابتداء من العام 2000. كلّ ما في الأمر أن افضل ما فعلته المعارضة السورية يتمثّل في الاهتمام بسورية كسورية وفي إعادتها إلى كنف العروبة الحضارية بعيدا عن الارتباط بإيران وغير إيران.
ما تبدو سورية في حاجة إليه مستقبلا هو فترة نقاهة تفسح في المجال أمام التفكير في كيفية إخراج البلد من الوصاية الإيرانية. هذه الوصاية منعت عمليا النظام من التفكير باكرا في كيفية الخروج من أزمته عن طريق إصلاحات جذرية كان مفترضا أن يباشر بها الرئيس بشّار الأسد في السنة 2000 وليس في السنة 2011، أي عندما كان لا يزال قادرا على أخذ مبادرات بدل القراءة من كتاب قديم عفى عليه الزمن. كتاب يقول إن إلغاء الآخر هو الحل وأن في الامكان استعباد الشعب السوري إلى ما لا نهاية ما دامت إيران تقف مع النظام في دمشق. لم يستفد هذا النظام حتى من خروجه العسكري من لبنان. بقي أسير وهم الدور الإقليمي الذي لم يفارق الكيان السوري منذ الاستقلال!  

السابق
السلفية والاخوانية
التالي
مؤتمر الديموقراطية الـ11 في البص