هل يعيد عون تموضعه السياسيّ؟

لعلّ ما استدعى طرح هذا السؤال ليس الأزمة الباردة التي نشأت بين «التيّار الوطني الحر» و«حزب الله» على خلفيّة تنصُّل الأخير من التزاماته التي كان كرّرها أمينه العام تحت عنوان الاستجابة لـ«مطالب عون المحقّة»، وخروج التباين للمرّة الأولى إلى العلن عبر مواقف عونيّة تستغرب، بالحدّ الأدنى، سلوك الحزب.

فما استدعى طرح السؤال هو أنّ العماد ميشال عون عوّد اللبنانيّين على اتّخاذ خيارات جذريّة في المحطّات المفصليّة من اتّفاق الطائف إلى انتفاضة الاستقلال، والبلاد اليوم هي على مشارف الدخول في محطّة مفصليّة تفوق أهمّيتها كلّ ما سبقها، لأنّ النظام السوريّ الذي كان السبب في تعطيل محطّتي الطائف والاستقلال الثاني يعيش آخر أيّامه، مع كلّ ما يترتّب على ذلك من انقلاب في المشهد السياسيّ ليس في لبنان فحسب، إنّما على مستوى المنطقة برمّتها. وقد أكّد مساعد وزيرة الخارجيّة الأميركيّة جيفري فيلتمان في زيارته إلى لبنان أنّ أيّام الأسد معدودة، داعيا قوى 14 آذار إلى تركيز جهودها على البعد السياديّ لا السلطويّ تحت مسمّى رئاسة الحكومة أو الانتخابات النيابيّة، محمّلاً إيّاها مسؤوليّة إدارة المرحلة الانتقاليّة.

وإذا كانت الإدارة الأميركيّة قد رأت بتمويل المحكمة خطوة ضد "حزب الله" تسجّل في خانة رئيس الحكومة الذي حظي بالتنويه اللازم، غير أنّه لم يفُت هذه الإدارة حرصها على إعطاء إشارة دعم للمعارضة ومن منزل الرئيس سعد الحريري بالذات، كي لا يفسّر دعمها لميقاتي تخلّيا عن الحريري الذي قاد وشركاءَه في الحركة الاستقلاليّة معركة تثبيت السيادة في لبنان.

وعليه، لا يمكن أن يكون العماد عون غافلا عن كلّ هذه الصورة وعن ما يجري من مداولات في الكواليس الديبلوماسيّة. ومواقفه حول قرب انتهاء الأزمة السوريّة ما هي سوى إشارات شكليّة وتطمينيّة لحلفائه، تخفي في طيّاتها بداية تفكير جادّ بإعادة تموضعه السياسي ليس باتّجاه 14 آذار، إنّما في العودة إلى المربّع المسيحيّ الذي راكم على أساسه شعبيته عشيّة الانتخابات النيابيّة في العام 2005 وما بعدها، تحت عنوان التحالف الرباعيّ، أو ما حرص على تسميته تحالف المسلمين من أجل احتفاظهم بالمكاسب التي حقّقوها إبّان الوصاية السوريّة على لبنان.فالمأزق الذي وصل إليه عون مثلّث الأضلاع: فشل خياراته الإقليميّة بالرهان على محور يسير باتّجاه التفكّك وصولا إلى الزوال بعد انهيار النظام السوري والحصار المفروض على النظام الإيراني، ومن ثمّ العزلة العربيّة والدولية التي يعيشها نتيجة خياراته، فضلا عن عجز "حزب الله" على الوفاء بالتزاماته حياله لناحية التعويض له حكوميّا وإداريّا وخدماتيّا مقابل الغطاء السياسيّ المسيحي-الوطني الذي يوفّره عون للحزب، وذلك نتيجة الظروف الموضوعيّة التي جعلت الحزب بحاجة لإرضاء ميقاتي من أجل استمراره في الحكومة التي تشكّل حاجة سوريّة في اللحظة السياسيّة الراهنة، كما استفادة رئيس الحكومة من هذا العامل-الحاجة لتوسيع هامش دوره الحكوميّ.

فالأزمة المستجدّة بين التيّار والحزب ليست من الطبيعة ذاتها التي شهدتها العلاقة في مراحل سابقة من "اتّفاق الدوحة" الذي توّج قائد الجيش حينذاك ميشال سليمان رئيسا للجمهورية، بينما كان يعتبر العماد عون أنّ أحداث 7 أيّار هي جسر عبوره إلى الرئاسة الأولى، إلى المديرية العامّة للأمن العام وما بينهما وما بعدهما، وحيث كانت الأمور تسوّى باستمرار نظراً لحاجة الطرفين لبعضهما بعضا. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: أين مصلحة عون في البقاء في تحالف يكشفه استراتيجيّا، أي عربيّا ودوليّا، وغير قادر على توفير مصالحه الآنيّة خدماتيّا؟

لا شكّ أنّ ثمّة وجهة نظر راجحة تقول باستحالة خروج عون من تحالفه مع الحزب لأسباب عدّة ليس المجال متاحا لذكرها، إلّا أنّ بإمكانه، في أسوأ الأحوال، التواطؤ مع الحزب الذي لا يناسبه أن يفقد غطاء مسيحيّا، أو أن يتحوّل هذا الغطاء إلى مظلّة للاقتصاص منه بتقاطعه مع القوى والأطراف المعادية له.

ولكن من يعرف عون جيّدا يدرك تماما أنّ هذا الرجل لا يحبّذ اللون الرماديّ، والشعبيّة التي راكمها كانت نتيجة مواقفه على قاعدة "يا أبيض يا أسود" على رغم نتائجها الكارثيّة، خصوصا أنّ أولويته، وقد أثبتتها الوقائع التاريخيّة في أبرز مفاصل حياته، هي أولويّة شخصيّة، إذ يستحيل أن يتحوّل إنسان من مدافع عن الدولة إلى حليف لحزب يشكّل وجوده حائلا دون قيام هذه الدولة.

ولعلّ افتراق عون عن الحزب يشكّل مصلحة سياسيّة كبرى كونه يجعل الأخير في حال عزلة داخليّة تترافق مع عزلته الخارجيّة، ما قد يدفعه إلى التسليم بالتحوّلات البنيويّة الناتجة عن حتميّة سقوط النظام السوريّ وعودته إلى المربّع الشيعي، وبالتالي الانخراط في المشروع اللبناني، ولكن على صوابيّة وموضوعيّة هذه المقاربة التي يصعب أيضا توقّع مؤدّياتها، إلّا أنّ السؤال الذي بدأت تتردّد أصداؤه: هل ستؤدّي عودة عون إلى المربّع المسيحيّ إلى تعطيل الفرصة التي سيتيحها انهيار النظام السوريّ على غرار تعطيله فرصتي اتّفاق الطائف والاستقلال الثاني؟ وبشكل أوضح، هل ستفرز هذه العودة مناخا مسيحيّا يستعيد المطالبة بامتيازات الطوائف في ظلّ "ربيع إسلاميّ" و"طائف لم يحقّق الشراكة"، وبالتالي العودة من التحالفات الوطنيّة العابرة للطوائف إلى الترسيمات الطائفيّة؟  

السابق
التنسيق تدعو الى الاضراب الخميس
التالي
الإيراني القلق