تفجير اليونيفيل: الرسـالـة وصلـت.. ولكنها فارغة المضمون

يستحق الهجوم الذي تعرضت له قوة «اليونيفيل» بالقرب من صور، أمس، صفة «الجريمة»، ولكن مع وصول الاشتباك الاقليمي والدولي الى ذروة الاحتقان، تصبح القراءة الانسانية والاخلاقية لاعتداء كهذا قاصرة عن فهم الرسائل المنوي توجيهها، خصوصاً ان المستفيدين كثر.

يدرك الذي خطط ونفذ التفجير ان في القافلة المستهدفة فرنسيون. الرسالة اذاً واضحة القصد. سياسة الرئيس نيكولا ساركوزي هي المستهدفة. باريس نفسها كانت تتوقع هجوماً منذ فترة طويلة. ذكرت صحيفة «لوفيغارو» في 4 كانون الاول الجاري «ان فرنسا تعتزم التخلي عن قيادة «اليونيفيل» خشية اختطاف عناصر من قواتها». وتحدثت مصادر اخرى عن قلق من استهداف مصالح فرنســية في الخارج.

قاد ساركوزي منذ وصوله الى قصر الاليزه، سياسة خارجية جريئة وخطيرة ومغامرة بعض الشيء. نقل فرنسا من مرحلة الاعتدال النسبي الديغولية الأصل، الى موقع المواجهة. صارت فرنسا الساركوزية أكثر قرباً من أميركا وعادت أطلسية اكثر من جل الدول الاطلسية. رفعت لواء الضغط على ايران. قادت فعلياً العمليات العسكرية لإسقاط معمر القذافي. سارعت الى المطالبة بتنحي الرئيس بشار الاسد. قال وزير الخارجية الآن جوبيه قبل ايام «لم نعد ننتظر شيئاً من هذا النظام»، احتضنت المعارضة السورية. قال الصحافي الفرنسي جورج مالبرونو قبل فترة «إن باريس تدعم لوجستياً المسلحين السوريين من خلال إمدادهم بمواد ما تحت الأشعة الحمراء ووسائل اتصالات». قبل فترة وصف ساركوزي «حزب الله» بـ«الارهابي»، واستبق زيارة الرئيس نجيب ميقاتي القريبة الى باريس باستقباله رئيس الحكومة السابق سعد الحريري. ولكن ساركوزي نفسه هو الذي أيّد إعلان دولة فلسطينية، وهو الذي ينتقد المستوطنات وعمليات التوسع، والأخطر انه وصف رئيس الحكومة الاسرائيلي بنيامين نتنياهو بـ«الكاذب» وذلك في لقاء خاص مع الرئيس الاميركي باراك اوباما.
قطعت هذه الدبلوماسية الساركوزية مع معهود السياسة الفرنسية المعتدلة والمترددة. كانت فرنسا قررت الانكفاء من لبنان في عهد الرئيس الراحل فرانسوا ميتران بعد تفجير مقر وحداتها المظلية في 23 تشرين الاول 1983، ثم عادت بقوة مع السياسة العربية لجاك شيراك (والتي أصبحت فيما بعد السياسة المتوسطية حين لامه البعض على إغفال إسرائيل). وفي خلال تلك العودة القوية، ذهب شيراك الى الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد في العام 1996 عارضاً عليه «شراكة استراتيجية» شاملة تستثني فقط التكنولوجيا العالية (لكونها تضر بإسرائيل). كافأه الاسد بفرض الدور الفرنسي في الشرق الاوسط وإشراك وزير الخارجية هيرفي دوشاريت في تفاهم نيسان 1996 بين لبنان واسرائيل.
كادت الامور بين سوريا وفرنسا أن تصل الى مصاف متقدم. احتضن شيراك الدكتور بشار الاسد قبل ان يصل الى رئاسة سوريا. كان الرئيس الغربي الوحيد الذي شارك في جنازة حافظ الاسد. ولكن مع التمديد للعماد اميل لحود وتقهقر العلاقة بين دمشق ورفيق الحريري، اختار شيراك ان يقف الى جانب صديقه الحميم رفيق الحريري وأن يقفل الباب مع دمشق نهائياً.

خسرت فرنسا وخسرت سوريا. ومع وصول ساركوزي الى السلطة، انقلب على العهد الشيراكي بكل تعقيداته. قرر فتح صفحة جديدة مع سوريا. كان ظاهرها طي صفحة الماضي، وتعزيز التعاون، وباطنها، إقناع الاسد بالتخلي عن ايران وانهاء دور سلاح «حزب الله» وتسريع عملية السلام مع اسرائيل. لم يتحقق اي شيء من هذا. بقيت العلاقات عادية حتى اندلعت الثورات العربية.
تأخرت فرنسا قليلاً في اتخاذ موقف. ثم اتخذته بعد ان تأكدت ان جل العرب صاروا ضد النظام السوري. قررت ملاقاة واشنطن في مطالبة الاسد بالتنحي. غامرت مجدداً بدورها في المنطقة وخصوصا في لبنان. ولكن الدبلوماسية الفرنسية بقيت تقول حتى الامس القريب «اننا اخلاقياً لا يمكن ان نقبل بنظام يقتل شعبه»، بينما تقول مصادر دمشق وحلفائها ان فرنسا، تريد، كما واشنطن، تطويق ايران وضرب خط الممانعة والقضاء على المقاومة و«حزب الله».

العاقلون يقولون إنه كان يمكن لباريس دون غيرها أن تلعب دور الوسيط. يستند ذلك الى عراقة المعرفة الفرنسية بالمنطقة، والى الاعتدال التاريخي، والى المخزون العاطفي الذي تتمتع به فرنسا. ربما كان بإمكانها مثلا منذ بداية الازمة السورية ان تلعب دوراً توفيقياً بين النظام السوري والمعارضة المتواجد معظمها اصلا على الاراضي الفرنسية. ولكن بعد الترنح في السياسة الفرنسية حيال زين العابدين بن علي، واللوم الذي سيق ضد تلك السياسة، لم تعد فرنسا قادرة على التردد في دعم اي انتفاضة او ثورة، فكيف اذا تعلق الامر بدولة يربطها تحالف استراتيجي مع ايران؟
من السهل ان تلصق الاتهامات بسوريا او «حزب الله»، ولكن من السهل ايضاً ان يكون المتضررون من دور الطرفين مستفيدين من التفجير. الرسالة وصلت، اما مرسلها فقد يكون من المستحيل في الوقت الراهن معرفة وجهه او هويته، فالمنطقة في اوج الاشتباك الاقليمي والدولي، وفي اوضاع كهذه يصبح الضباب كثيفاً جداً.  

السابق
النهار: باريس تردّ التحدي: التزاماتنا مستمرة وبيان لمجلس الأمن يندّد بالهجوم الإرهابي
التالي
الحياة: إصابة 5 فرنسيين بعبوة استهدفت دورية لـليونيفيل والرؤساء وحزب الله وعون يسارعون إلى إدانة الاعتداء