شربل نحاس يصطدم بجدار لبنان

تاق الأجراء إلى «زودة» تخفّف عنهم قليلاً من الأعباء المتثاقلة، في بلد قلّما يظهر رأفة بأحوالهم، فجاءتهم بما لم يتوقعوه حتى في أبشع مناماتهم. ذهب وزير العمل شربل نحاس في اقتراحه حتى النهاية. أظهر تصميماً غير عادي. تشبّث برأيه ومواقفه منذ البداية، وبعناد عز نظيره، مفسحاً في المجال أمام نقاش رؤى الآخرين فحسب، لتقريبها من تصوّره للأمور وكيف ينبغي أن تكون، وإلّا لا تكون!
أراد نحاس من الجميع أن يوافقوه على مشروعه ورؤيته، ولم يبد استعداداً لموافقة أحد على شيء. فانتهى وحيداً من دون أصحاب، ما خلا قلة قليلة توسمت خيراً به وبمشروعه. حتى أقرب حلفاء تكتل التغيير والإصلاح، والذين تربطهم بهم ورقة تفاهم إستراتيجية، على ما يرددون دوماً، صوّتوا مع المشروع الآخر، وضمناً ضد مشروع نحاس الواعد. أما زملاؤه في التكتل فبعضهم، وهو بعض أشهر من أن يسمّى، انتظر ريثما يتيقن من أن حصيلة المشاورات الجانبية أفضت إلى أكثرية صارخة مؤيدة لمشروع ميقاتي ـ بري ـ سليمان، قبل أن يحزم أمره للتصويت بـ«ضد» لا مفاعيل عملية لها. هذا البعض لمّا انتهى التصويت راح في دخيلة نفسه يرقص للمشروع الآخر، ويهمس في أذن رئيس حكومته أنه مع «نحاسه» (نقولا) وليس مع «نحاسنا» (شربل).
أبعد من ذلك، رأى شربل نحاس إلى مشروعه بما هو من طبيعة الأشياء، فلا حاجة تالياً لحشد وتكتيل الناس من حوله. أراد له، هو الذي يصلح لكي يكون برنامجاً إصلاحياً لعهد رئاسي ونيابي وحكومي، في بلد آخر غير لبنان، أن يتحقق بإرادة غيبية تحلّق فوق الواقع وفوق عناصره وتناقضاته ومنظومة مصالحه الشديدة الوضوح. تصرف كما لو أن الظرف القائم هو غير ما هو عليه، وكما لو أن الواقع هو غير ذلك المرئي والمكشوف للجميع.
تصرف نحاس كأنما ثمة واقع آخر مقيم خلف الواقع القاتم. وكأنما التركيبة الطائفية الصلبة، بأوزانها وأنصبتها المحسوبة بدقة متناهية، والتي ارتضى أن يكون جزءاً عضوياً من تكوينها، تقبل بالإصلاح، بل قد تبادر من تلقائها إلى إجرائه. جرت الأمور عكس ما يشتهي. فاصطدمت طوباويته بجدار الواقع السميك المطلوب هدمه طبعاً، إنما بمعاول وسواعد أخرى، ليست بالمتناول راهناً، ولكنها قد تكون، ولو بعد حين..
أراد للمشروع أن يسلك القنوات القانونية والدستورية على قاعدة: كن فيكون. فكان ما كان بديهيا!  أخطأ. فلم يكلف نفسه عناء إقناع الآخرين، ومنهم حلفاؤه الأوثق، بالجدوى الاقتصادية والاجتماعية لمشروعه. كما واظب على ترداد عبارات مبهمة، من قبيل «تعديل النمط الاقتصادي القائم» و«الأجر الاجتماعي» و«سلة الحقوق الاجتماعية»، مما لا يقع الواحد بسهولة على أدلة ملموسة تفيد أنها تلقى تأييداً غير مشروط حتى داخل التكتل الذي ينتمي إليه والذي اختاره للوزارة، فكيف بعموم اللبنانيين الموزعين على شعوب وملل وهويات قاتلة، نادراً ما تتلاقى على شيء مفيد، حتى لا نقول العكس.
خسر الوزير الاتي في الزمن الخطأ ومعه كل الأجراء المبتلين بنكد العيش الخانق في وطن ما عاد يصلح للعيش في أي شكل… وفاز أصحاب العمل والأغنياء حصراً بقرار جائر ومجحف اتخذته «طوائف أصحاب العمل» في حكومة لا يترجى منها اللبنانيون غير حفظ الأمن والاستقرار، لا أكثر.
مسلك الحكومة قبل يومين أسقط كل الأقنعة عن نظامنا السياسي الهدّام. وأظهر أن هذه الحكومة تنطبق عليها الأوصاف التي انطبقت على غيرها منذ تأسيس الكيان ونيله الاستقلال حتى اليوم. هي معادية لمصالح الناس المشتركة، وضد تحسين أحوالهم المعيشية، التي تزداد تردياً يوماً بعد يوم، ومن دون أن ينفتح في الأفق أي أمل. هذه الحكومة تقف وجهاً لوجه أمام الأمل بمستقبل أفضل. الأمل الذي يختلج في صدر كل لبناني أضناه العيش طوال الفترة الماضية بلا أمل ولا رجاء. والأمل هو الروح، هو الحياة عندما تستحق تسميتها.
وكما تصرفت هذه الوزارة بعقلية صاحب عمل، ينحاز للرأسمال والأرباح على حساب العمل المأجور وضداً من مصالحه، يفترض بالعمال والأجراء والمستخدمين، خصوصاً أولئك المنتظمين خارج إطار «الدمى» العمالية العديمة الجدوى والمستتبعة لأحزاب الطوائف، أن يتصرفوا على أساس أنهم عمال وأصحاب حق.
ذاك أن الطريقة التي أُخرج بها قرار تصحيح الأجور أعادت التأكيد على حقيقة أن الإصلاح لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون وجهة نظر شخصية. الإصلاح إما أن يكون وطنياً وشاملاً ومن خارج الأطر الطائفية والبنى التقليدية البالية ومستنداً إلى قاعدة اجتماعية متراصة، أو لا يكون.
لعل أدق توصيف لما قام به رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ذاك الذي قال أنه أخرج خلال الجلسة أرنباً من كمّه ـ وهو كم كبير يتّسع للكثير من الارانب على ما يبدو ـ فاجأ به الجميع.. لكن ما أغفله بعض من يدعون الفطنة أن هذا الأرنب العجيب كان محتضراً لحظة إخراجه. ولن يأخذ العمال والأجراء وقتاً طويلاً قبل اكتشاف موته..
المسألة مسألة وقت وحسب. والربيع ليس مستبعداً، شرط أن نأذن له بالقدوم.

السابق
الأصولية اليهودية تضرب العالم
التالي
تجمع لبنان المدني يحذر من سلوك الفتنة ويطالب الحكومة بلجم الاقطاعات في المؤسسات العامة