لهـذه الأسبـاب نـزل نصـر اللـه إلى ساحـة عاشـوراء

من الذكرى الأكثر إيلاماً بالنسبة للأميركيين، خاطبهم الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله. بشرهم بأن مصير من «يهددون من وراء البحار والمحيطات لن يكون أقل من مصير بوارجهم وجحافلهم التي دمرت عند شواطئ بيروت» في خريف العام 1983.
لم يشأ نصرالله أن يمر العاشر من محرم بوصفه تراثاً شيعياً فحسب. أراده أن يكون عنواناً لموقف الحزب من مرحلة مصيرية من الصراع. وبهذا المعنى لم يكن للمتابعين للإطلالة «التاريخية» إلا أن يتوقفوا عند كل عبارة ـ رسالة قالها «السيد» في معرض خطابه. حتى «هيهات منا الذلة» ربطت هذه المرة بشكل وثيق بكل ما يجري في المنطقة. فُهمت إصراراً من قبل «حزب الله» وقائده بأن كل الضغوط من أينما حلت ستواجه بقرار حاسم: لا مجال للتراجع أو الاستسلام بل استعداد للدفاع عن الثوابت مهما كانت التضحيات.
بعد انصهار الديني بالسياسي في المهرجان، فإن السؤال عن مغزى الحضور الشخصي لنصرالله، بعد غياب دام ثلاث سنوات (كانت المرة الأخيرة التي خرج فيها إلى العلن في احتفال تحرير الأسرى في تموز 2008)، يصبح أكثر إلحاحاً، ذلك أن «السيد» لم يقلّ يوماً في ظهوره المتلفز من إبراز مواقف الحزب في القضايا الداخلية والإقليمية كما أن رسائل الشاشة لطالما نجحت في الوصول إلى كل من يهمه الأمر بدءاً من المحازبين وصولاً إلى أميركا. انطلاقاً مما سبق، فإن الخروج إلى الهواء الطلق وبين الجماهير لا يمكن تفسيره إلا بوصفه «رسالة قوة وتحد للمخاطر لا لبس فيها، في ظل تحليق مبكّر للطيران الإسرائيلي»، بحسب أحد المحللين لمضمون رسالة العاشر من محرم. هو أيضاً تأكيد على أن الأمور جدية جداً وأن الحزب جاهز لكل الاحتمالات مهما يكن الأمر، بحسب محلل آخر. وقبل هذه وتلك، هي إعلان التعبئة الكاملة لجسم الحزب العسكري والمدني ثم لجمهوره الذي نجح «السيد» في شد أزره، بحسب محلل ثالث، ويوضح أن هذا الإعلان عادة ما يترافق مع الحروب، التي وإن لم تقرع طبولها بعد، إلا أنها تؤكد أن الحزب بات على ثقة أن ما يحصل يماثل أقصى درجات الحرب، وهو ما يستدعي الاستعداد لوجـستياً ونفسياً لكل الاحتمالات.

بما أن «حزب الله» قد أعد جيداً لهذه المناسبة وأرادها مفصلاً في أحداث المنطقة، لم تقتصر الرسائل على الظهور العلني لنصرالله بل استكملت وبأشد منها من خلال الشاشة، فطلب من «المتآمرين» عدم الرهان على المتغيرات في المنطقة لإسقاط سلاح «حزب الله». وتحديداً عدم المراهنة على أي تغيير في سوريا لأن المقاومة رتبت أمورها وهي جاهزة لكل الاحتمالات. أما السبب فهو بصوت عال: «نحن يوما بعد يوم نزداد عددا، ويصبح تدريبنا أحسن وأفضل ونزداد ثقة بالمستقبل ونزداد تسليحا». ووصل تعمق في رسائله إلى حد طمأنة القلقين على السلاح في المخازن أن «كل سلاح يصدأ نأتي بجديد». أما الرسالة الأكبر والأكثر دلالة على تسليح الحزب الاستراتيجي، فتجلت في إشارته العرضية، أثناء تطرقه إلى الوضع الداخلي الذي لم يكن له مساحة تذكر في الخطاب، إلى إمكانيات الدفاع البحري والجوي التي يملكها الحزب.

بعد خطاب عاشوراء، فإن كل من شكك بتهديد نصرالله في خطابه قبل الأخير أن سلاحه هو جزء من معادلة المنطقة، سمع في الخطاب الأخير تأكيداً على ما قاله حينها. إذ قدم «السيد» مقاربة شاملة لمهمة هذا السلاح في الدفاع عن محور إقليمي كبير، وفي مواجهة كل الاستهدافات وتقاطعاتها، إن كانت عبر الفتنة المذهبية أو عبر المؤامرة في سوريا أو السعي إلى مواجهة سلاح المقاومة في لبنان، من دون إغفال أن المنطقة على عتبة مرحلة إقليمية جديدة، مع انجاز الانسحاب الأميركي من العراق.
وضع «السيد» الصراع مع إسرائيل في خانة الصراع مع الوكيل، فيما ركز هجومه على الأصيل، أي الإدارة الأميركية التي تسعى لإحياء مشروعها للشرق الأوسط الجديد، على أمل تعويض بعض خسائرها في بلاد الرافدين، لاسيما بعدما أزاحت عواصف الربيع العربي معظم حلفائها في المنطقة. أما كيف تسعى إلى التعويض، فعبر وسيلتين لا ثالثة لهما بحسب نصرالله، أولاهما الفتنة الطائفية وصولاً إلى إحياء مشروعها القديم لتقسيم المنطقة لدويلات طائفية، والذي أضيف إليه مشروع نائب الرئيس الأميركي جوزيف بايدن لتقسيم العراق، الذي يعتبر أحد أبرز تجليات السياسة الأميركية بعد الانسحاب ـ الهزيمة. أما الوسيلة الأميركية الثانية، بحسب نصرالله، فهي تفكيك محور المقاومة انطلاقاً من الضلع السوري، بعيداً عن كل ما يقال عن أن ما يجري في سوريا يهدف إلى تغيير نظام قمعي دموي.

مناخ «حزب الله» بعد الخطاب ـ البوصلة، صار واضحاً: لسنا خائفين وعلى غيرنا أن يخاف، ونحن على استعداد لكل الاحتمالات، مع ثقة كاملة بأن أي جهة محلية أو اقليمية أو دولية، لن تستطيع محاصرة «حزب الله»، أما من راهن على تكيف حزب الله مع الواقع، انطلاقاً من تجربته البراغماتية في موضوع تمويل المحكمة، فقد سمع رسالة حاسمة مفادها الآتي: «في المسائل الإستراتيجية، لا يمكن لـ«حزب الله» إلا أن يكون حزباً كربلائياً» كما يقول أحد المحللين.  

السابق
الخروج إلى الحريّة عبر صناديق الانتخابات
التالي
مشروبات روحية مقابل تبرّع بالدم!