صناعة المراكب الخشبية إلى اندثار

حكاية عشق بين صور ومراكبها الخشبية تروي زمناً فينيقياً قديماً. ويعود ذلك العشق إلى أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمئة سنة، يوم جاب الفينقيون البحر المتوسط بتجارتهم المختلفة المحمولة على المراكب، التي كانوا يصنعونها بأيديهم. وصناعة المراكب الخشبية، التي غالباً ما يطلبها صيادو الأسماك، ومن ثم المؤسسات السياحية والأفراد، توارثها الصوريون أباً عن جد، وهي تواجه خطر الاندثار اليوم، بفعل الكلفة العالية، وغياب طلب الصيادين وسواهم للمراكب من جهة، وعدم مبالاة الدولة للحفاظ على ذلك الإرث من جهة ثانية.

ورث إيليا بربور (80 عاما)، عن والده صناعة المراكب الخشبية، وأصبح خلال السنوات العشر الماضية المعلم الحصري والوحيد الذي يصنع المراكب ويرممها في مدينة صور. وبات محله الضيق المكدس بالأخشاب المحلية، قبلة لطالبي المراكب والمهتمين والسيّاح الأجانب. ويقع عند مدخل حارة المسيحيين، المواجهة لميناء الصيادين، حيث ترسو مئات المراكب التي صنعها بربور بمعاونة أولاده. وشاركته ذلك الإقبال عائلة أمين عكنان، التي تركت المهنة قبل نحو ثماني سنوات.
«كنت أصنع سنوياً أكثر من خمسة مراكب من أحجام مختلفة، يطلبها صيادون من صور وغيرها، أما اليوم فبالكاد أصنع مركباً واحداً»، كما يقول بربور، «ليس بسبب عدم القدرة على الإنتاج، لكن نتيجة تراجع الطلب على المراكب من جانب الصيادين، الذين يعاندون من أجل الاستمرار في ممارسة مهنتهم، التي تشهد بدورها تراجعاً كبيراً». وتزيد كلفة المركب الصغير «الشختورة» اليوم على ستة آلاف دولار أميركي، وتحتاج عملية تصنيعه إلى نحو ثلاثة أشهر.

ويتفاخر إيليا بربور، الذي بدأ بممارسة المهنة في العام 1958 بمهنته الفريدة. يقول: «صنعت إلى جانب أولادي، الذين تعلموا المهنة، مركباً مواصفاته فينيقية، ومقدمته رأس ورقبة حصان، وفي الخلف ذنب حورية بحر. وقد فاز ذلك المركب، الذي صنعته بناء لطلب وزارة التجارة اللبنانية ودفعت ثمنه آنذاك، بالمرتبة الثالثة في معرض للمراكب أقيم في دولة البرتغال عام ألفين». ويشكو ولده جورج، الذي كان يتولى ترميم مركب شراعي يعود عمره إلى أكثر من خمسين عاماً، يخص أحد الأشخاص من مدينة بيروت، من «تراجع وتعثر صناعة المراكب الخشبية في صور، التي كانت شهدت ولادة تلك الصناعة على يد الفينيقيين». ويؤكد جورج بربور أن «صناعة المراكب انحسرت بنسبة ثمانين بالمئة»، معيداً أسباب ذلك إلى «ارتفاع الكلفة، المتمثلة بشراء الأخشاب، ومادة المازوت والأجور»، أضافة إلى المشاكل الاقتصادية للصيادين، الذين «يعمدون إلى الاكتفاء بترميم مراكبهم القديمة عند الحاجة الملحة». يتابع جورج بربور «لم نصنع في السنة الحالية سوى مركب واحد، يعود إلى شخص مغترب بعدما كنا نصنع أكثر من خمسة مراكب في سنوات خلت، يمكن أن نسمّيها سنوات العز والذروة. أما الصيادون الذين يعجّ بهم ميناء صور، فبالكاد يحصلون على ثمن المازوت لرحلاتهم البحرية».

ويؤكد بربور الابن أن «الاخشاب المعروفة (ايروكو)، التي كنا نستقدمها من إفريقيا لتصنيع المراكب، أصبحت متعذرة بفعل ثمنها المرتفع وكلفة استقدامها إلى لبنان، وأصبحنا بالتالي نعتمد على الخشب المحلي ولا سيما الزنزلخت والكينا والسرو وسواها»، مناشداً «الدولة الاهتمام بهذه الصناعة، والحفاظ عليها من خلال تقديم الدعم، لكونها جزءاً من التاريخ والتراث الذي يتباهى به الصوريون».  

السابق
تدابيـر قاسيـة من بلدية حاصبيا لوقف رمي الزيبار في الحاصباني
التالي
المواقف الدولية باتت تستند إلى الإجماع العربي