نهضة عاشوراء: بناء وطن وليس طائفة

 لا يمكن اعتبار ما وقع على أرض كربلاء ظهيرة العاشر من محرم لسنة 61 للهجرة على أنه ثورة, فالثورات تتمايز عن غيرها بأنها انفجار قطاع أو أكثر في المجتمع على وضع غير سليم ظلما كان أو فقرا, وغالبا ما تحمل الثورات مطالب معينة إما سياسية كثورات القرن الثامن عشر والتاسع عشر الاوروبية (الثورة الفرنسية مثالا) وإما هي مطالب اجتماعية عامة كالاحتجاجات الطلابية في ستينات القرن الماضي أو اجتماعية خاصة بفئة معينة كمسألة التمييز العنصري (مارتن لوثر مثالا), لهذا الثورات دائماً تكون موقتة ومتعلقة بزمن معين ومطالب محددة.
حركة الإمام الحسين (عليه السلام) نهضة وليست ثورة وهو ما أكد عليه منذ عقود المفكر الشهيد مطهري, لأنها لم تحمل مطالب زمنية ومحددة أي أن مطالبها لم تقتصر على تغيير النظام أو المطالبة بالخلافة أو فصل الامامة عن الخلافة, ولم تحمل مطالب اجتماعية معينة كحماية أشياع الإمام علي (عليه السلام) وهو أبخس ثمن وكان تحصيل حاصل في حال المهادنة والاذعان, ولأن الحركة لم تتعلق بمرحلة زمنية أي أنها لم تتعلق بأحداث العاشر فحسب وإنما تتعلق بالحياة كلها المليئة بتحديات العاشر وهو السبب الذي دفع أئمة أهل البيت وشيعتهم الى الاستمرار بالحزن والأسى السنوي.
إن نهضة عاشوراء تعلقت بالاساس باستنهاض قيم المجتمع لبناء أمة ووطن, فالقيم التي هي مشترك إنساني لا تتعلق بمطالب محددة وغير مقيدة بزمان معين كما أنها ليست حصرا وقصرا على فئة وطائفة معينة, فالمجتمع الذي تحيا قيمه يكون قادرا على بناء ذاته وبعثها من جديد.
لكن كان لا بد من آلية تمكن من استنهاض هذه القيم وبعثها بشكل متجدد ودائم, هذه الآلية كانت روح الممانعة, فخلق روح ممانعة كفيل باستنهاض وتجديد قيم المجتمع, بناء هذه الروح وجدناها جلية في كلمات الإمام الحسين (عليه السلام) عبر شجبه للمهادنة والرضوخ وهو أيضا ما نجده جليا في تاريخ المعصومين, فصحيح ما يقال عن أن الإئمة لم يعطوا شرعية سياسية لكثير من الثورات الارتدادية للنظام السياسي آنذاك لكن ما هو صحيح أيضا أنها لم تعترض عليها وهو ما يمكن أن يعد تقريرا بها, لهذا كان ولا يزال بقاء روح الرفض والاحتجاج هما للشارعين الاسلامي والانساني أيضا.
لكن الممانعة لا تعني الاحتجاج والرفض فقط, وإنما تعني أيضا النقد والنظر والتحليل أيضا, بعبارة أخرى يمكننا القول أن مظاهر الاحتجاج والرفض تعد آلية الروح الممانعة أما أرضيتها فهو النقد والملاحظة, لذلك لا تعني الممانعة في قاموس عاشوراء حالة الغوغائية والهمجية إنما حالة المقاومة والاحتجاج الواعيين والناضجين.
إذا يسمح لنا هنا بالقول أن نهضة عاشوراء إنما سعت إلى بناء أمة ووطن عبر خلق روح ممانعة لاستنهاض القيم التي هي إنسانية قبل أن تكون إسلامية ودينية, لهذا الممانعة وحدها التي يمكنها بناء وطن وأمة, والمهادنة والإذعان وحدهما اللذان يبنيان الطوائف, ومن نافل القول أن تاريخنا الاسلامي والعربي حافل بشواهد على ذلك, فممانعة وتحرر المجتمع العربي هو الذي حقق استقلال الأوطان في حين مهادنة وإذعان وتحالف طوائف مع النظم والمستعمرين عززت ليس الأوطان وإنما الطوائف ولا يبرأ التاريخ الشيعي من المهادنة لتبريرات المحافظة على الطائفة وحفظ المقدسات وهي تبريرات أو أسباب أخذت بعدا فقهيا في المذهب الشيعي وهذا ما سعى إلى كسره فقهاء معاصرون كالنائيني والصدر والخميني والشيرازي وغيرهم.
لذلك لا يوجد مرادف في قاموس عاشوراء لمصطلح المهادنة من أجل الطائفة أو المصالحة مع نظم استبدادية خوفا من سطوة طوائف أخرى أو الإذعان للحصول على مسجد هنا وحسينية هناك, لأن هذه المصطلحات ترادفها بناء طوائف وملل وليس أمماً وأوطاناً وهو ما لا يغطيه القاموس الحسيني.
فالتعارض بين الوطن والطائفة هو في زاوية الممانعة, فرفض الاستبداد السياسي والفساد يمكن أن يؤدي إلى التنكيل بالطائفة كما أن الاصلاح السياسي والديمقراطي يمكن أن ينزع امتيازات الطائفة, في حين مهادنة الأقوى يحفظ مكانة الطائفة والتحالف مع النظم وإن كانت مستبدة يوسع مساحة الحرية الدينية للطائفة, وهذا بالتحديد كان عرض يزيد بن معاوية للإمام الحسين (عليه السلام).
لكن الحسين رفض وفضل التنكيل والملاحقة وتشتيت الطائفة من أجل خلق روح الممانعة وقيمها كمقدمة لبناء أمة ووطن, فليس المهم ما تحصل عليه أبدان الطائفة وإنما المهم ما تكسبه أرواحهم. 

السابق
بين سمير القنطار وسليمان الحكيم
التالي
مِنْ حَمَد إلى سورية مع تحيات “نوبل”