تركيا وتغيير الإستراتيجيات

 منذ انقلاب أتاتورك على الخلافة الإسلامية في تركيا، بدأ بإعادة توجيه مؤشر البوصلة التركية عكس الصورة أو لإتجاه آخر من الشرق إلى الغرب، وهي اللحظة التاريخية الحاسمة في العهدة التركية أو الإمبراطورية التي أحكمت قبضتها على منطقة الشرق الأوسط القديم، وحاصرته عليه في فلكها وحاضنتها· وفي سنة 1924 ألغى أتاتورك الخلافة الإسلامية معلناً عن جمهورية تركيا العلمانية، التي بدأ يرسم ملامحها عملياً من خلال طرد الخليفة وأسرته من تركيا، وإلغاء وزارتي الأوقاف والمحاكم الشرعية، وتحويل المدارس الدينية إلى مدنية واستطاع أن يورد نظاماً سياسياً وقضائياً جديداً، يمحى كل أثر للخلافة الإسلامية، وبذلك بدأ ينحو بتركيا لمنحى معاكس لمنحاها السابق، وناقلاً المجتمع التركي من مجتمع إسلامي إلى مجتمع مدني يتجه نحو الغرب والتمدن الغربي، وساعده في ذلك الصورة البطولية أو الكاريزما القيادية التي رسخها بالذهن الشعبي التركي بقيادته لحرب الاستقلال التركية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وتحرير تركيا من الاحتلال الأوروبي، وإعلان الجمهورية العلمانية المدنية، التي سيطر خلالها على زمام الأمور فعلياً بالقضاء على كل خصوصه عسكرياً وسياسياً· بدأت تركيا تُصوغ سياستها بناءً على تحالفاتها الجديدة مع أوروبا وعلى وجه الخصوص انكلترا، حيث بدأ التوجه الاستراتيجي التركي يبحث عن مكانه سياسية – اقتصادية أوروبية، مما جعل من تركيا دولة أوروبية نظرياً في اقتصادها وسياساتها، وتقاليدها، رغم جغرافيتها الأسيوية، وهو ما طغى على السياسات التركية المتعاقبة التي فشلت في الانضمام للاتحاد الأوروبي رغم كل محاولاتها، على اثر مشكلتها مع اليونان فيما يتعلق بالقضية القبرصية· استطاعت تركيا أن تمثل حاجزاً دفاعياً للولايات المتحدة الأميركية وأوروبا الغربية في مواجهة الاتحاد السوفييتي السابق والكتلة الشرقية خلال الحرب الباردة بين الرأسمالية والاشتراكية، ولعبت تركيا التي أصبحت تحت سيطرة العسكر دوراً رئيسياً في التصدي للقوى الاشتراكية في المنطقة، كما وعقدت تحالفات إستراتيجية مع الكيان الصهيوني وكانت أول دولة إسلامية تعترف بدولة إسرائيل، وعقدت معها تحالفات سياسية- عسكرية إستراتيجية، بل وذهبت أبعد من ذلك في تحالفاتها مع الولايات المتحدة وإسرائيل سواء ضد سوريا واستحواذها على مصادر المياه، أو في دعمها اللوجستي في الحرب ضد العراق 2003م من خلال القواعد الأميركية على أراضيها، واختراق الأراضي العراقية من مناطق الأكراد العراقيين، بالرغم من العداء بين الأكراد وتركيا، وحالة الحرب المعلنة بين الأكراد وتركيا، إلاّ أنَّ المصالح العليا تسيطر على المصالح الفرعية، خاصة وإنّ كانت هذه المصالح تتلاقى على قاعدة المصلحة الإقليمية·
تعتبر تركيا حليفاً أميركياً حيوياً في المنطقة، بل أن المؤسسة العسكرية التركية تعتبر ذراع للولايات المتحدة في المنطقة يماثل الدور العسكري الإسرائيلي، وذلك للعديد من الاعتبارات التي ذكرت سابقاً، وأهمها أن تركيا حائط الصد في مواجهة الاتحاد السوفييتي، وتعتبر خط دفاع أول للولايات المتحدة الأميركية في الحرب الباردة، وعليه فقد هيمنت المؤسسة العسكرية التركية على مقاليد الأمور في الجمهورية التركية، وكانت تعتبر القوة الأساسية التي تسيطر على السياسات والاستراتيجيات الأساسية التركية· وهو أحد الخلافات العلنية بين تركيا والاتحاد الأوروبي الذي كان يؤكد دوماً على هذا الدور في رفضه انضمام تركيا للاتحاد كدولة أوروبية· خلال تلك الحقبة حتى سنة 2003م أي قبيل احتلال العراق وتدمير مقوماته، لم تولِ تركيا منطقة الشرق الأوسط أهمية في توازناتها السياسية والاقتصادية، وكذلك أجهضت كل محاولات الإسلاميين في الصعود لمقاليد الحكم في تركيا رغم نجاحها عدة مرات عبر حزب الرفاه بقيادة (اربكان) إلاّ أنّ المؤسسة العسكرية كان لها رأيها في الحفاظ على علمانية الجمهورية، بل وحلت الحزب عدة مرات، ولاحقت زعيمة وأعضائه، تحت سمع ومرآي ومباركة الولايات المتحدة الأميركية، التي كانت ترى بقوى وأحزاب الإسلام عدوها الأساس بعد انتهاء الحرب الباردة مع الكتلة الشرقية، وكذلك بعد أحداث سبتمبر 2001م، وضرب القاعدة للولايات المتحدة(برج التجارة العالمي)، فأصبحت المعركة مع قوى الإسلام الأكثر تطرفاًً- حسب التصنيف الأميركي – حرباً مفتوحة· خلال تلك الحقبة، وتلاحق الأحداث بدأ البحث عن استراتيجيات أميركية جديدة للسيطرة والهيمنة على المنطقة، دون الزج بالولايات المتحدة في إتون معركة مباشرة كما حدث في أفغانستان والعراق، وضرورة إيجاد مخارج ومداخل سياسية تستطيع من خلالها الولايات مواجهة بعض القوى الإقليمية في المنطقة، وكذلك مواجهة قوى التطرف الإسلامي، وبسط نفوذها على المنطقة بآليات ومخططات يتم استيعابها من شعوب المنطقة، وتقبلها، وإنهاء حالة الاحتقان الشعبي ضد الولايات المتحدة الأميركية·

مع هذه الحالة كان حزب العدالة والتنمية بقيادة (طيب رجب اردوغان) يعيد صياغة الإستراتيجية التركية نحو منطقة الشرق العربي، وكذلك إعادة النظر بالتوازنات السياسية الإستراتيجية للسياسات التركية العامة، فبدأ بسياسات تطمئن أوروبا سياسياً بأن حزب التنمية يُقدم نموذج إسلامي يستطيع التعامل مع أوروبا، أي نموذج إسلامي فريد ومغاير للنماذج السابقة، وكذلك لنموذج أستاذه(أربكان)، وهو ما تقبلته أوروبا، ووجدت فيه الولايات المتحدة النموذج الأقرب أو البديل المناسب لإلتفاف الشعوب حوله، وكذلك التعامل معه سياسياً، فأطلق العنان للسياسة التركية، وللسيد اردوغان بسط قوته على تركيا، هذه القوة المدعومة من المجتمع التركي الذي وجد في حزب العدالة والتنمية ضالته في محاربة الفساد الإقتصادي والارتقاء باقتصاد تركيا، وهنا كلمة السر في تحقيق التفاف جماهيري شعبي حول الحزب، اعتبر المصدر الأساسي في مواجهته مع المؤسسة العسكرية التركية، التي بدأت مرحلة ترويضها ليس بفعل الالتفاف الجماهيري التركي وحسب، بل وبإرادة خارجية كذلك، حيث أن هناك قوة داعمة لحزب العدالة والتنمية في تقويض وكبح جماح المؤسسة العسكرية، والقضاء التركي العلماني الذي عجز عن إيجاد مصوغات قانونية يواجه بها حزب العدالة والتنمية، ورئيس الوزراء(اردوغان) كمّا فعل مع أستاذه(اربكان) وهنا القراءة تختلف، بما أن موازين القوى اختلفت في رؤيتها للمنطقة بحلتها الجديدة· إذن، فالحالة التركية بدأت معالجاتها الأساسية من خلال الأحوال التركية الداخلية في اتجاهين، الأول معالجة اقتصادية وإعادة الحيوية والانتعاش للاقتصاد التركي، الذي انعكس بالرخاء والازدهار على المواطن التركي، وهو عامل الحسم الأهم لدى الشعوب، والثاني تقويض سلطة المؤسسة العسكرية التركية، وسحب مصادر دعمها وقوتها، وتعريتها من حلفائها وعلى وجه التحديد – الولايات المتحدة الأميركية – بما أن دورها انتهى مع نهاية الحرب الباردة، ولم يعد هناك حاجة لقوة ردع عسكري، في ظل انهيار القوة السوفيتية، وتلاشى أي تهديدات عسكرية من روسيا·

أما الاتجاه الآخر (الخارجي) الذي اعتمد عليه رئيس الوزراء التركي (اردوغان) وحزب العدالة والتنمية، هو إعادة صياغة علاقاته مع العرب سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي، وبدأ التقارب التركي عربياً وإسلامياً مع الأنظمة، وكذلك مع الشعوب، ومع قوى الإسلام السياسي في المنطقة، وهذا اتضح جلياً في مواقف تركيا من إسرائيل، بالرغم من العلاقات الإستراتيجية مع هذا الكيان، وبالرغم من أن رئيس الوزراء التركي(طيب اردوغان) هو الزعيم المسلم الوحيد الذي حل ضيفاً على رئيس وزراء إسرائيل شارون برفقة زوجته، وبرغم المعاهدات العسكرية – الاقتصادية والسياسية مع إسرائيل إلاّ أنّ السياسة التركية بدأت تظهر قسوة اتجاه إسرائيل، وعلى وجه التحديد فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية عامة، وحصار غزة خاصة، ودور تركيا الأساس في كسر الحصار على غزة، مما منح تركيا عامة، واردوغان خاصة زخم شعبي عربي وإسلامي لم يناله زعيم أو رئيس مسلم أو عربي بعد <جمال عبد الناصر> وبدأت شخصية اردوغان تجد لها موطأ قدم في الوجدان العربي والإسلامي، ومصداقية لا حدود لها· هذه السياسة هي تأكيد على إعادة التوازن في السياسة التركية نحو منطقة الشرق العربي، والتي تقوم على منطق> اكسب كل الأطراف> حيث أنها لا زالت تحتفظ بعلاقاتها وتحالفاتها مع إسرائيل، وبذات الوقت تقربت للنظام الرسمي العربي، وللشعوب العربية التي تجد في السياسات الرسمية التركية أهمية أكبر من علاقاتها مع الأنظمة وهو ما اتضح من مواقفها من الثورة المصرية، وأحداث ليبيا، وكذلك أحداث سوريا·

?أي أنّ تركيا تتناغم مع السياسات الشعبية ومتغيرات المنطقة وفق آليات مخططة جداً، وهو ما منحها قوة إقليمية موازية للقوة الإيرانية التي تحتفظ أيضاً معها بعلاقات سياسية واقتصادية· الصورة عامة تؤكد أن تركيا تتجه من الغرب الذي فقدت الأمل بقبولها لديه كعضو كامل في الاتحاد الأوروبي، إلى الشرق السوق الحيوي اقتصادياً، وسياسياً لها، ما حققت به نجاحات لافته خلال حقبة بسيطة مستفيدة كذلك من مذهبها الذي يتناغم ويتلاقى مع قوى الإسلام السياسي في المنطقة – وعلى وجه الخصوص – (الإخوان المسلمين)· إذن يمكن قراءة المتغيرات التركية من عدة زوايا ومنحنيات، سواء فيما يتعلق بالمصالح التركية الشخصية كدولة تبحث عن مصالحها السياسية والاقتصادية في المنطقة بعد احتلال العراق، أو من حيث مذهبها الديني الذي يتناغم مع النزعة العقائدية- المذهبية التي بدأت تطفو على سطح الصراعات السياسية، وخاصة في ظل وجود لاعب مذهبي قوي يتمثل بإيران، واندفاعه نحو المنطقة وخاصة (لبنان وفلسطين)·

أو من حيث مصالحها الدولية المرتبطة مع أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، وتناغم هذه المصالح – إن لم يكن – انصهارها كما كانت عليه في حقبة الحرب الباردة سابقاً مع المنظومة الاشتراكية، وهو يؤكد أن النموذج التركي ربما يعتبر البديل الأكثر رواجاً لتطبيقه في المنطقة العربية بعد انتهاء مدة الصلاحية للأنظمة العلمانية والقومية في المنطقة· وهنا ربما تكون الصورة أكثر إيضاحاً لو تأملنا التقارب الشديد بين جماعات وقوى الإسلام السياسي العربي وحزب العدالة والتنمية التركي، وكذلك زيارة اردوغان لمصر بعد الثورة التي تعتبر دعماًً وتحفيزاً لجماعة الإخوان المسلمين الأقرب والأوفر حظاًً للقفز إلى سلم السلطة التشريعية في مصر في الانتخابات القادمة·

ويبقى كخلاصة عامة الاستمرار في دراسة الحالة أو النموذج التركي منذ عام 1992م، حيث بدأ حزب العدالة والتنمية يشق طريقه صوب قيادة تركيا، وحالة التمازج والتناغم في السياسات التركية إلى أن أصبحت تعتبر لاعباً قيادياً أساسياً في الثورات العربية التي أطلق عليها <الربيع العربي>· 

السابق
ماذا ينفع نظام الاسد بعد؟
التالي
ماذا يعني فوز جمهوري بالرئاسة الأميركية؟