لهذه الأسباب موّل ميقاتي المحكمة

لم يكن من مصلحة أي من أطراف الاكثرية إستقالة الحكومة التي لوّح بها رئيسها نجيب ميقاتي الخميس الماضي بسبب الخلاف على تمويل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، ولذلك كان التمويل بالصيغة التي قررها ميقاتي ولم تُحرِج أحداً.

ذلك أن استقالة الحكومة، وبإقتناع الجميع، من شأنها أن تدخل البلاد في فراغ حكومي طويل في ضوء التطورات الدراماتيكية التي تشهدها المنطقة عموما وسوريا خصوصا، إذ لن يكون متيسرا للمعنيين تأليف حكومة جديدة لأسباب كثيرة، ولأن عدم التمويل كان سيعرض لبنان لعقوبات دولية تؤذيه من جهة، وتُطبِق الحصار المفروض على سوريا من جهة ثانية، خصوصا بعد العقوبات الاقتصادية التي اتخذتها جامعة الدول العربية ضدها، وبقيت معها النافذتان اللبنانية والعراقية مفتوحتان على دمشق لأن بيروت وبغداد لم تؤيدا هذه العقوبات.

ولذلك كان مخرج التمويل الذي هندسه رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، في أن يبادر الأخير، جريا على سابقتين مماثلتين، الى تحويل حصة لبنان من هذا التمويل الى المحكمة من خلال حساب موجود في مصرف لبنان مخصص للتبرعات والهبات والمساعدات ولرئيس الحكومة صلاحية تحريكه غير آبه بالمواقف المعارضة لهذا التمويل، والتي كان فريق 14 آذار يراهن عليها، الى مسائل أُخرى، لتحقيق شعاره بإسقاط الحكومة الميقاتية.

ويعتقد بعض السياسيين ان خطوة ميقاتي حظيت بتأييد ضمني لدى المعنيين الذين اختاروا "أهون الشرين" بين رفض التمويل الذي قد يستجلب عقوبات اقتصادية دولية، وربما غير اقتصادية ضد لبنان، من شأنها ان تتحول عمليا عقوبات مباشرة ضد سوريا التي وجدت في الموقف اللبناني منها ما يخفف عنها وطأة العقوبات العربية والدولية الدولية المفروضة عليها، ويؤمن منفذا لها الى الخارج العربي والدولي. وبين تمرير هذا التمويل الذي يُجنّب لبنان تلك العقوبات التي من شأنها أن تجعله، رغما عنه، شريكا في الحصار المفروض على دمشق.

ويقول سياسيون شاركوا في الاتصالات التي سبقت إعلان ميقاتي قراره بتمويل المحكمة، أن جميع الأفرقاء المشاركين في الحكومة أدركوا أن لا مصلحة لأي منهم في استقالتها، وذلك في ضوء المعطيات الآتية:

اولاً، بالنسبة الى رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، فإن سقوط الحكومة سينهي عهده منذ الآن ويحوله "عهد تصريف اعمال" لأنه سيكون من الصعب تأليف حكومة جديدة، في حين أن بقاء الحكومة من شأنه أن يُمكّنه من تلقيح الادارة بمؤيدين له، بما يؤمن مستقبله السياسي بعد خروجه من سدة الرئاسة الأولى. إذ انه وفق "اتفاق الطائف"، وفي حالة إستقالة الحكومة لا يكون لرئيس الجمهورية أي تأثير على المستويين السياسي والإداري، لأن تصريف الأعمال هو في الحدود الضيقة، وربما يطول وتدخل معه البلاد في فراغ حكومي لتعذر الإتفاق على تأليف حكومة جديدة.

ثانياً، بالنسبة الى رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي هندس مخرج التمويل في لقاءاته ومشاوراته المتعددة مع ميقاتي وبقية الأفرقاء السياسيين المشاركين في الحكومة، فإنه بعد ان كان نال لقب "القابلة القانونية" في ولادة الحكومة بتنازله عن وزير شيعي من حصة حركة "امل" لمصلحة الوزير فيصل كرامي بغية تسهيل هذه الولادة واخراج البلاد من أزمة التأليف التي طالت وإستطالت في حينه، اثبت مرة أُخرى قدرته وحنكته في إجتراح الحلول وإبقاء الحكومة على قيد الحياة ما جعله أباً روحياً لها حتى انتخابات 2013.ثالثاً, بالنسبة الى ميقاتي الذي انطلق في تمويل المحكمة من إقتناع وطني بأنه يحمي لبنان والمقاومة من أي تدخلات دولية، فإنه يدرك في الوقت نفسه أن إستقالة الحكومة قد لا توفر له فرصة جديدة لتولي سدّة الرئاسة الثالثة في فترة قريبة، ولكن التمويل جنّبه هذه الاستقالة ومكّنه من تكريس زعامته الوطنية والسنية وأوقفت مزايدة المزايدين عليه ومخوّنيه، وأكد أنه ليس تابعا لحزب الله وغيره، حسبما يتهمه البعض، وانه استطاع ان يفرض رؤيته وقراره على حلفائه الذين سمّوه، كذلك كرّس صورته على المستوى الدولي بأنه رجل دولة يلتزم تعهداته، وبالتالي سيبقى رئيسا للحكومة حتى انتخابات 2013 بما يؤمن عودته مجددا الى الندوة النيابية وتكريس زعامته الوطنية عموما والسنية خصوصا، في طرابلس ولبنان.

رابعاً, بالنسبة الى حزب الله، فإنه بقي منسجما مع موقفه، فهو لم يشارك في قرار تمويل المحكمة التي يعتبرها "أميركية وإسرائيلية" ولا يعترف بها، وهو في الوقت نفسه يحرص دوما على بقاء الحكومة، أولاً، لأن بقاءها يبقيه شريكا في القرار ومؤثرا في ادارة العملية السياسية والامنية في لبنان، كذلك يوفر له التأثير في السياسة الخارجية سواء على مستوى جامعة الدول العربية، أو على مستوى المؤسسات الدولية في لحظة مصيرية على المستوى الاقليمي عموماً والمستوى السوري خصوصاً، بدليل الموقف الذي إتخذه لبنان بعدم التصويت ضد سوريا في جلسات مجلس الأمن الدولي وجامعة الدول العربية. وكذلك ايضا على مستوى الاجهزة الامنية، فصحيح انه لم يؤثر عليها ولكنه بمواقفه منها تمكن من تقييد حركتها ضده.

خامسا, بالنسبة الى رئيس تكتل "التغيير والاصلاح" النائب ميشال عون لن يتكرر مشهد إستحواذه على غالبية التمثيل المسيحي في الحكومة مرة أُخرى بما يجعله ممسكا بها مهما رفع سقوف اعتراضاته وخطاباته في حال إستقالتها، ولذلك فإن من مصلحته استمرارتكمن في إستمرار الحكومة لأنه في حاجة الى تحقيق مكاسب على المستويين الاداري والسياسي تحضيرا لانتخابات 2013، وبالتالي لن يوجه إليها "الضربات القاتلة" وسيكتفي بالازعاج الذي يستدرج المقايضة.

سادسا, بالنسبة الى رئيس "جبهة النضال الوطني" النائب وليد جنبلاط فإنه يعيش في حال لا يستطيع معها الانتقال من ضفة الاكثرية الى ضفة قوى 14 آذار لعدم وضوح المشهد السوري لديه، ولذا فإن بقاء الحكومة وعدم الدخول في الفراغ الذي حذّر منه، يوفر متنفسا له لتأمين الخدمات لبيئته الطائفية والسياسية لضمان فوزه في انتخابات 2013، في انتظار ما ستؤول إليه الاوضاع السورية التي بدأ يقتنع بطول أمدها وعدم المراهنة على سقوط نظام الرئيس بشار الأسد، وفي هذه الحال لا يكون انتظاره مجانيا، وإنما مدفوع الأجر بواسطة الحكومة.

سابعا، بالنسبة الى سوريا، بدل ان يكون لبنان عبئا عليها ونافذة مغلقة تحتاج اليها مفتوحة في هذه المرحلة، فإن بقاء الحكومة يبقي لبنان رئة التنفس لها في لحظة مفصلية في الحياة السياسية السورية.

لكل هذه الاسباب كان قرار ميقاتي بتمويل المحكمة والحفاظ على الحكومة، ليتم التعاطي مع الآتي من ملفات، على الطريقة اللبنانية، بحيث سيعود الخلاف لبنانياً – لبنانياً بعد أن كاد يصبح لبنانياً- دولياً لو أن التمويل لم يحصل. وغداً عندما سيُطرح التمويل في مجلس الوزراء من زاوية الصلاحية التي مارسها رئيس الحكومة في صدده من دون العودة الى المجلس، فإن افرقاء سيطرحون ملف الشهود الزور وتعديل البروتوكول الموقع بين لبنان والمحكمة الذي تنتهي صلاحيته في آذار المقبل، وغالب الظن أن ميقاتي أخذ هذين الامرين في حسبانه، وقد وجد أن السبيل الى معالجتهما لا يمكن ان يمر إلا بعد تمويل المحكمة الذي جنّب لبنان رفع هذا الملف الى مجلس الامن مع ما يمكن ان يستتبعه من عقوبات دولية يمكن إتخاذها ضد لبنان في حال عدم التمويل.  

السابق
ما هو المقابل للمخرج من مأزق التمويل؟
التالي
مكاري: توجه لدى حزب الله لابقاء الحكومة حية عون يمارس الديماغوجيا ويحقق حاجات الحزب وتياره