لمن يقرأ من الإسلاميين..

الأكيد أن خطأً جسيماً يرتكبه الإسلاميون في بلدان المنطقة بالتهافت على إعلان انتصاراتهم، من تونس وليبيا إلى المغرب ومصر، خصوصاً متى كانت احتفالياتهم تلك تقوم في جانب كبير منها على اختطاف تضحيات «الثوار» الحقيقيين، وعلى قطف ثمار زرعها آخرون، وعلى شيء من انتهازية ولو في انطباعات الناس عنهم. انتهازية يكفيها أن الإسلاميين في كل تلك البلدان، تقريباً، قد عرفوا دورة كاملة من المواقف المتتالية: التعاون مع الأنظمة بداية، ثم محاولة الانقلاب عليها، قبل الوقوع في خانة المضطهدين الكامنين، في انتظار «يوم أبرك وظرف أفضل».

وقد يكون الخطأ الجسيم نفسه ما ترتكبه الجماعات غير المسلمة، بمواجهتها لهم بخطاب ديني، وبمقولات «حقوق الأقليات»، فيستدرجون أنفسهم إلى ملعب «أعدائهم». فحين تصبح المعركة «حروب آلهة»، وحين تصبح السماء غرفة عمليات، و«الغيبيات» قادة الجيوش، و«الكتب المقدسة» خرائط هجوم ودفاع وتراجعات تكتية أو انقضاضات إجهازية… عند هذا الحد لا منتصر إلا جنون الدم والحقد، ولا نتيجة إلا أرماجدعونية، حيث يفنى البشر، ليبقى إله، خلقَنا أو خلقناه لا فرق عندها.

بعض العاملين على ظاهرة الأصوليات منذ عقدين مطمئِنٌ ويطمئن. يقولون إنها المرحلة الانتقالية الإلزامية بين تخلف الأنظمة الساقطة وحداثة الديموقراطية الآتية. كأنها لحظة اضطراب العقل (convulsion) في مخاض تطوره الحتمي. حتى إن قراءة شهيرة تحدثت عن حال مطابقة لدى كل أديان الأرض، في مواجهة ولادات الديموقراطية. تلك الظاهرة الحديثة قياساً إلى التاريخ البشري، التي لم تولد ولم تتمدد إلا بالتوازي مع تطور الفكر الديني عبر الأرض. بدايتها مع العالم البروتستانتي قبل نيف وقرنين، إثر اضطرابات دموية في القارة العجوز، أين منها ما يعيشه العالم الإسلامي اليوم. قبل أن ترتاح فترة طويلة وتترسخ بعيداً منها، لتطرق أبواب العالم الكاثوليكي في النصف الثاني لا غير من القرن العشرين بالذات، وذلك بعد معمودية حمراء أغرقت الأرض برمتها في الحربين الكونيتين. وحتى الربع الأخير من ذلك القرن، كانت أوروبا الكاثوليكية لا تزال على علاقة ملتبسة بالديموقراطية. فإسبانيا والبرتغال غريبتان عنها، وإيطاليا وفرنسا مترددتان بين الأحمر والبني من ألوان السياسات الشعبوية. والقراءة نفسها تتابع رسم تاريخية المسار الديموقراطي، فترى أن تلك الظاهرة البشرية لم تبلغ العالم الأرثوذكسي إلا في العقد الأخير من القرن الماضي، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا، وبثمن قانٍ أيضاً، من ساراييفو المكلومة الدائمة، إلى القوقاز التائه بحثاً عن هوية عصرية بين هويات قرونسطية قاتلة.

المهم أن القراءة المطمئنة تلك ترى أن الديمقراطية تدق اليوم باب العالم الإسلامي، وعلينا انتظار الجواب. وفي الانتظار علينا أن نتوقع ونشهد ونقبل ظواهر اضطراب العقول والنفوس، وما يرافقها من إفرازات القلوب والأجساد الجريحة.
في هذا الوقت، ليس الخطاب الديني أفضل حجة للمقارعة. ولا مفهوم الـ«نحن» والـ«هم»، ولا حتى منطق الجماعات وتاريخها وخصوصياتها وحقوقها الفردية والجمعية. فكل تلك الأدبيات تؤدي فعلياً إلى دفع مزيد من المياه إلى طاحونة الأصوليات الدينية. فكيف إذا كانت طواحينها من نوع الرحى، ومياهها قابلة للاستعاضة بالدماء، ومعاركها مستدامة حتى في مواجهة طواحين الهواء؟ المنطق الأفضل للمواجهة في هذه المرحلة الانتقالية من تاريخية فكر المنطقة وعقلها، هو بالتركيز على الإنسان، الشخص الإنساني. على حقوقه الأصيلة الكاملة. على حقه في الوجود، بمعزل عن واجبه في اكتساب دور أو لا دور.

الإنسان في إنسانيته هو المركب الوحيد الممكن لاجتياز عواصف الجنون المتراكب، بين الهوس بالثأر من طغيان ساقط، والجنون بتأكيد هوية مقموعة، والاندفاع المطلق لتأكيد صحة كتاب أو إيمان أو إله. وحده مفهوم الإنسان، الكامل القدسية في حقه في الحياة الحرة الكريمة الكاملة، لمجرد أنه إنسان، هو الخطاب القادر على تسريع الديموقراطية، وعلى الجهر بحقيقتها، مسألة وجودية شاملة للنشاط المجتمعي الإنساني، قبل الانتخاب، وخلاله، وخصوصاً بعده. وإنها وإن كانت في تمظهرها الخارجي عبارة عن خشبتين: صندوقة الاقتراع وكشك الصحف، لكنها في جوهرها عبارة عن ثابتة في تقلبين اثنين: ثبات الديموقراطية في التناوب الضروري على السلطة، لا بين أشخاص وحسب، بل أيضاً وخصوصاً تناوب الأفكار والمشاريع والبرامج على السلطة، وثبات الديموقراطية في ضمان الحقوق الأصيلة الثابتة لكل إنسان، مهما كانت هوية السلطة المتناوبة…
كلام قد لا يعني شيئاً اليوم لأصحاب احتفاليات الفوز المحجَّب أو المنقَّب. لكنه امتحان تاريخي لهم سيفصل بين انتقالهم الوئيد إلى الغد، أو قفزهم السحيق رجعاً إلى زمن بائد. 

السابق
مسلسل البلبلة الأمنية في صيدا متواصل
التالي
بقايا الخبز لصناعة الوقود الحيوي ؟