الاخبار: التمويل يمهّد لمعركة مطالب عون

تمويل المحكمة الدولية أُنجز، وباتصال هاتفي واحد. الترحيب عمّ العواصم الخارجية، والمعارضة احتفت بـ«انتصارها» مطالبة بالمزيد. أما الأكثرية، فساد الصمت مقارّها، باستثناء عين التينة التي رحبت وتلقت «التبريكات». لكن صمت الأكثرية لن يطول؛ فالسيد حسن نصر الله، أعلن منبر المجلس العاشورائي مساء اليوم، مناسبة لكلمة سياسية من المتوقع أن يكون التمويل بنداً رئيسياً فيها
«بضربة معلم»، وباتصال هاتفي من السرايا إلى البنك المركزي، حُلّت القضية، وجرى تجنب كل السيناريوات والتوقعات لجلسة مجلس الوزراء، وبالتالي لمصير حكومة الأكثرية. هكذا بكل بساطة، أُعلن أولاً إرجاء الجلسة إلى موعد لم يحدد، ثم اتصل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، طالباً تحويل مبلغ من موازنة رئاسة مجلس الوزراء لدفع حصة لبنان في تمويل المحكمة الدولية، ثم خرج ليعلن للصحافيين انقضاء الأمر. وبالتالي مر يوم أمس من دون أن تُسقِط الحكومة التمويل أو يُسقطها التمويل، انطلاقاً مما لوّح به رئيسها في مقابلته التلفزيونية الأخيرة بأنه إما التمويل أو يستقيل.
هكذا، بقدرة قادر، وعلى طريقة «لا يموت الديب ولا يفنى الغنم»، حصل الدفع من دون أن تنقسم الحكومة، وحتى من دون أن تنعقد. لتبدأ التحليلات عن المنتصر مما حصل، ومعها التساؤلات: كيف حصل؟ لماذا رضي من كان يرفض؟ وهل من ثمن لهذا الرضى؟ ما مدى قانونية هذا المخرج البسيط الذي لم يطرح سابقاً قطّ؟ ومن أين الأموال التي دُفعت للتمويل؟ ما هو موقف المعارضة التي بدت أخيراً كأنها تفضل إحراج الحكومة في هذا الملف لإخراجها؟
لناحية التمويل، كادت كل وسائل الإعلام تجمع أمس على أنه جرى من حصة الهيئة العليا للإغاثة، لكن رئيس الهيئة العميد إبراهيم بشير نفى لـ«الأخبار» صحة هذا الأمر. وترددت معلومات عن أن التمويل حصل من حساب موضوع في تصرف رئيس الحكومة في مصرف لبنان، ومعظمه متأتٍّ من تبرعات وهبات داخلية وخارجية.
 في مواقف الأطراف، بدا رئيس الحكومة وهو يعلن من السرايا تحويل حصة لبنان من التمويل، كأنه صاحب الحق الحصري في هذا القرار، متوجهاً إلى اللبنانيين، وعبرهم إلى مختلف الأفرقاء، فبرر قراره بأن «الأخطار التي تواجه وطننا تتطلب موقفاً واضحاً وقراراً جريئاً»، وبأن إصراره على التمويل ينبع: أولاً من حرصه على حماية لبنان «دولة الحق بشعبه وجيشه ومقاومته»، وثانياً من إيمانه بمبدأ إحقاق الحق والعدالة، وثالثاً من التزامه ألا يكون رئيساً لمجلس الوزراء «يخلّ بتعهدات لبنان الدولية أو يخرجه من حضن الأسرة العربية والدولية أو يساهم في تدهور أوضاعه الداخلية». ولخص ما أقدم عليه بأنه قرار وطني: يحفظ لبنان ولا يعرضه لاختبارات قاسية، يحمي الوحدة ويخنق الفتنة ويجنب لبنان استحقاقات تخدم مخططات العدو الإسرائيلي، ويعطي الوطن فرصة إضافية لنبعده عن تداعيات ما يحصل في منطقتنا، إضافة إلى أنه يعكس التزام لبنان تعهداته الدولية ومبدأ العدالة ويعزز الثقة بالمستقبل وبالعمل والإصلاح والإنجاز.
وشدد ميقاتي على أن خطوته «ليست انتصاراً لفريق أو انهزاماً لآخر، ولا هي تسليم باتهام أشخاص أو جهة بالضلوع في جريمة الاغتيال»، كذلك فإنها «ليست انتقاصاً من دور أي مؤسسة دستورية على الإطلاق»، بل هي «مكسب للدولة اللبنانية والمؤسسات مجتمعة، ولجميع اللبنانيين من دون استثناء»، معلناً التمسك «أكثر فأكثر بضرورة متابعة عمل المحكمة الخاصة بلبنان، مع تأكيد أهمية أن تكون حيادية وعادلة في مقاربة هذا الملف، بحيث تبقيه بعيداً عن التسييس أو تصفية الحسابات أو التعاطي الكيدي».
وإذ أمل أن يمثّل التمويل حافزاً لتخطي الانقسامات والخلافات «والنزعة المتمادية إلى الانزلاق نحو المغامرات والمراهنات والأخطار»، دعا إلى العودة فوراً إلى طاولة الحوار الوطني، ودعا الوزراء «إلى اعتبار هذا اليوم بمثابة انطلاقة جديدة للعمل الحكومي، وبالتالي السعي الجدي والسريع إلى تفعيل أداء وزاراتهم». وتمنى «على الأسرة العربية والدولية أن تتفهم حساسية الوضع اللبناني»، معلناً تثمينه لـ«إدراك وتفهم كل الفرقاء للوضع الراهن الذي نمر فيه، وأتعهد مجدداً تقديم مصلحة لبنان واستقراره وسلامة أراضيه على أي مصلحة أخرى».
بالنسبة إلى قوى 8 آذار والتيار الوطني الحر، لفت عدم صدور أي موقف علني، باستثناء رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي نقل عنه زواره أمس ارتياحه لما حصل، مشيراً إلى أنه لمصلحة البلد. ودعا الحكومة لـ«الانصراف إلى معالجة القضايا والملفات الحيوية الملحة»؛ لأن «المطلوب تسريع الخطى في العمل على كل الصعد»، مؤكداً «مرة أخرى تعزيز المناخ الذي يصب في استئناف الحوار برعاية فخامة رئيس الجمهورية». وأفاد المكتب الإعلامي لبري، بأن الأخير تلقى اتصالاً من رئيس الجمهورية ميشال سليمان «مباركاً الحل الذي حصل»، واتصال مماثلاً من ميقاتي.
وفيما ساد الصمت على جبهة حزب الله، بانتظار ما سيقوله أمينه العام السيد حسن نصر الله في إطلالة في المجلس العاشورائي مساء اليوم، سيخصصها بالكامل للشأن السياسي، كما ذكرت قناة المنار، وخصوصاً أن التمويل ترك تساؤلات بالجملة عند قاعدة الحزب وجمهوره عن ملابسات ما حصل. وفيما توقعت مصادر متنوعة أن يكون خطاب نصر الله تحت سقف الحفاظ على حياة الحكومة، لكن مع منح جرعة إضافية من الدعم لمطالب النائب ميشال عون بشأن تفعيل الحكومة، كشفت مصادر معنية بالمشاورات الحكومية أن الحزب لم يوافق على الصيغة المطروحة للتمويل، وأبلغ ميقاتي بأنه غير معنيّ بأي تسوية في هذا المجال. ولفتت المصادر في المقابل، إلى أن ميقاتي، خلال فترة التفاوض، كان يريد إمرار التمويل، بغض النظر عما سيعلنه شركاؤه في الحكومة من مواقف لاحقاً بشأن قانونية القرار أو عدمه.
كذلك، لم يصدر أي موقف علني أمس من الرابية، لكن مصادر عون أكدت أن موقف تكتل التغيير والإصلاح لا يزال على حاله، أي إنه ضد التمويل ومع أولوية تفعيل العمل الحكومي، معلنة تلقي إشارات إيجابية من ميقاتي بشأن تفعيل العمل. ولفتت إلى أن معظم ما يطالب به التكتل «هو عبارة عن قضايا إنمائية تهم جميع اللبنانيين، ولجميع شركاء الحكومة مصلحة في تنفيذها». وفيما أكدت هذه المصادر أن الاتصالات الجدية لم تبدأ بعد لتحديد ما سيُدرَج على جدول الأعمال من هذه المطالب، فضلاً عن قضية التعيينات التي تحتاج إلى بحث معمق مع رئيس الجمهورية، قالت مصادر ميقاتي إن العدد الأكبر من المشاريع التي يطالب بها عون «مدرجة على جدول الأعمال»، وإن ميقاتي يدرِج على جدول الأعمال كل مشاريع التعيينات التي ترده من الوزراء، مضيفة أن الحكومة «معنية بمتابعة الشؤون الحياتية والمشاريع الإنمائية، مع التشديد على أن مجلس الوزراء ليس مكاناً لتقاسم الحصص».
ولفتت مصادر رسمية إلى أن ما سيجري البحث فيه ابتداءً من اليوم هو التوفيق بين مطالب عون ومطالب رئيس الجمهورية بشأن تعيينات المواقع التي يُتعارَف على أن يشغلها موظفون مسيحيون، كرئاسة مجلس القضاء الأعلى على سبيل المثال لا الحصر، مشيرة إلى أن البحث الجدي بهذا الشأن لم يبدأ بعد. ولفتت مصادر معنية إلى أن تسوية التمويل لم تكن تحتمل الدخول في قضايا أخرى؛ «لأن الأولوية كانت للحفاظ على الائتلاف الحكومي».

المعارضة تطالب بالخطوة الثانية

ومقابل صمت الأكثرية، سارعت المعارضة إلى استثمار ما حصل على أنه انتصار لها واعتراف من الأكثرية بالمحكمة الدولية؛ فعلى ضفة «المستقبل»، وصف الرئيس فؤاد السنيورة ما فعله ميقاتي بأنه «أمر جيد وفيه استجابة للموقف الذي وقفناه»، لكنه رفض بطريقة غير مباشرة أن يكون رئيس الحكومة قد اتخذ هذا القرار بمفرده، قائلاً: «كفى تذاكياً على الناس، أصبح الأمر مضحكاً مبكياً بهذه الطريقة». كذلك وصف تيار المستقبل الأمر بأنه «خطوة في الاتجاه الصحيح ونتيجة حتمية لنضال اللبنانيين في سبيل المحكمة»، مضيفاً أنه «إقرار من جميع أعضاء الحكومة، وفي طليعتهم حزب الله بأهمية المحكمة»، وانطلق من ذلك ليطالب «الحكومة ورئيسها ومن يقف وراءها (بـ)تسليم المتهمين فوراً ومن دون إبطاء إلى العدالة». أما النائبان سيرج طور سركيسيان ورياض رحال، فأدليا بتصريح مشترك، شكرا فيه بري «على الإخراج الذي قام به بشأن تمويل المحكمة»، واعتبرا أن «هذا الأمر يدل مرة أخرى على غياب رئيس الحكومة عن اتخاذ القرارات المصيرية المتعلقة بالبلد».
ومن حلفاء المستقبل، رحب رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، بقرار التمويل، وكذلك زائره أمس النائب بطرس حرب. وقد طالب الاثنان بـ«خطوة ثانية»، هي تسليم المتهمين إلى المحكمة. أما الأمانة العامة لقوى 14 آذار فاستنكرت «تهريب التمويل» من خارج مجلس الوزراء، إلا أنها رأت في ما حصل «انتصاراً لمبدأ التمويل»، وطالبت أيضاً بتسليم المتهمين.
وفي المواقف الدولية، رحبت كل من واشنطن ولندن وباريس والاتحاد الأوروبي بقرار ميقاتي، وقال المتحدث باسم الخارجية الأميركية مارك تونر، إن عمل المحكمة الدولية «فرصة للبنان لتجاوز تاريخه الطويل في الإفلات من العقاب بسبب العنف السياسي»، مشيراً إلى أن دعم بيروت للمحكمة وتعاونها معها «التزام دولي أساسي». كذلك رحب متحدث باسم الخارجية البريطانية بالقرار وأكد استمرار دعم بلاده للمحكمة وللبنان. فيما هنأ الناطق الرسمي باسم وزارة الشؤون الخارجية الفرنسية، ميقاتي بهذا القرار «الذي يسمح للبنان بالامتثال لالتزاماته الدولية»، متمنياً «أن تكون الحكومة اللبنانية تعمل على الإصلاح الذي ينتظره اللبنانيون». ووصفت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كاثرين آشتون ما حصل بأنه خطوة إيجابية، وقالت: «يجب أن يسمح قرار رئيس الحكومة للبنان بالمحافظة على استقرار حكومته والسير قدماً في تنفيذ برنامج الإصلاح المهم». كذلك رحبت بالقرار السفيرة الأميركية مورا كونللي التي زارت ميقاتي أمس.

«مخرج لا يُحرِج فريقنا»

قبل إعلان قرار التمويل، صدر موقفان شماليان يوحيان بوجود «طبخة» ما أدت إلى إخراج هذا القرار بالطريقة التي خرج بها. فالرئيس عمر كرامي نفى وجود أزمة حكومية، وقال بعد استقباله سفير بريطانيا طوم فليتشر إن «هناك لجنة ألفت، والرئيس نبيه بري يؤدي دوره، والرئيس بري أستاذ والكل يعترف له بالأستذة، ومعلوماتي، الأمور ماشية ولا تشغلوا بالكم».
وبعد زيارة للبطريرك الماروني بشارة الراعي، قال إنها لتأكيد الوقوف إلى جانبه؛ «لأن الحملة التي يتعرض لها وصلت إلى حدود قلة الأدب»، علق النائب سليمان فرنجية على موضوع التمويل بالقول: «كنت دائماً إلى جانب حلفائي وسأبقى، وهذه المحكمة كنا نعتبرها دائماً مسيسة، وما زلنا نعتبرها كذلك. أما في موضوع التمويل، فنحن إلى جانب الرئيس ميقاتي في إيجاد مخرج لا يحرج فريقنا السياسي في التزام المحكمة والاعتراف بها». وإذ نفى علمه بهذا المخرج، أردف بأن رئيس الحكومة «يتمتع بالذكاء الكافي ليجد كل المخارج»، مؤكداً أن الحكومة لن تستقيل. 

السابق
النبطية: افتتاح مشروع صغير ضمن برنامج دعم عائلات السجناء
التالي
نقولا: تمويل المحكمة عبر الهيئة العليا للاغاثة لا يعطيها الشرعية