الحركات الشبابية المصرية تواجه النظامين القائم والآتي!

من الصعب اتهام مخططي المجلس العسكري بالتخبط في قرار اختيار رئيس الوزراء الجديد، لذلك فإننا امام احتمالين: اما الدهاء السياسي او الجلافة غير المقصودة.
الحركات الشبابية في ميدان التحرير هي على "صواب ثوري" حين ترفض اختيار المجلس العسكري للدكتور كمال الجنزوري رئيسا للوزراء.
فبمعزل عن السمعة الشخصية الحسنة للجنزوري ظهر هذا الاختيار تأكيدا للمعادلة القائلة بأن المجلس العسكري يتصرف على اساس ان الذي جرى منذ ارغام الرئيس حسني مبارك على التنحي هو تغيير رأس النظام مع الاحتفاظ بهذا النظام. وحين يُعين رئيس سابق للوزراء من عهد مبارك بالذات فهذا ذو دلالة عالية على مفهوم القيادة العسكرية للتحولات بأنها لا تزال تحت سقف "النظام".
لكن قد يعترض البعض هنا بالسؤال التالي: … وهل المنتظر مفهوم آخر من المؤسسة العسكرية! أليست موجودة في موقعها السلطوي الحالي كبديل للفراغ في منصب رئيس الجمهورية الا لانها مؤسسة النظام السياسي الاساسية منذ عام 1952 تاريخ انقلابها على المؤسسة الملكية؟! لا بل قد يذهب هذا الاعتراض ابعد بالتذكير ان رفعها الغطاء عن حسني مبارك رئيسا هو الذي جعله بدون حماية امام معتصمي ميدان التحرير لانه هو ذاته أخل في السنوات الاخيرة من حكمه بمعادلة "الجيش مصدر السلطة" عندما سلّم مجموعة من رجال الاعمال حول نجله بل عائلته مقاليد القرار السياسي – الاقتصادي للبلد.
ايا يكن الجواب على هذا الاعتراض في هذا "السجال" غير المعلن من قبل المجلس ومؤيديه الذين يستخدمون حججا أخرى على شاشات التلفزيون أهمها انتظار نتائج السياق الانتخابي التشريعي فالرئاسي لتسليم السلطة ووضع الدستور الجديد لتغيير النظام… ايا يكن الجواب فلا شك ان اختيار الدكتور الجنزوري يعكس جوا سياسيا – نفسيا يعيشه الضباط الكبار في المؤسسة العسكرية يجعلهم يقدمون على هذا النوع من الاختيار "الاستفزازي" الى هذا الحد لمنطق "الثورة" نفسها وخصوصا لشبابها المتجمعين في ميدان التحرير الثاني. فهؤلاء الشباب ومن يدعمهم – للتذكير- لديهم مشكلة مستقبلية مع التيارين الاصولي والسلفي اعمق من مشكلتهم المفترض انها عابرة او مؤقتة مع المجلس العسكري اذا تم الانتقال "السلس" للسلطة عبر الانتخابات. هم اساسا خليط من الشباب من بيئات ليبرالية ومحافظة غير اصولية وعلمانية مسلمة وقبطية تتخوف تخوفا عميقا من سيطرة "الاخوان المسلمين" (والسلفيين) على الحياة العامة السياسية والاجتماعية .
كان بامكان المجلس العسكري ان لا يختار رئيسا اسبق للوزراء احتراما في الشكل على الأقل لفكرة التغيير الثوري التي لا تسوّغ الاتيان برموز سابقة للنظام. كان بامكانه – كما فعل عندما اختار عصام شرف – ان يأتي بوزير سابق لم يكن في الصف الاول من النظام السابق هذا اذا استبعدنا اسماء من قلب الشرعية الثورية الجديدة كمحمد البرادعي. وهو احد الاسماء الثلاثة التي اشيع ان الحركات الشبابية رشحتها لرئاسة الحكومة.
لهذا بدا الامر مع اختيار الجنزوري استفزازا فعليا للحركات الشبابية التي ترى انها تستحق احتراما أعلى لموقعها المحتقن- المتفجر في المستقبل المصري حتى لو لم تكن تمثل ولن تمثل الا اقلية في المجتمع وبالتالي في صناديق الاقتراع ولكنها أقلية من "جماهير" نخبوية حديثة وفاعلة.
من الصعب اتهام مخططي المجلس العسكري بالتخبط في قرار من هذا النوع، خصوصا بعدما ظهر ان الاختيار نجح في استقطاب تأييد شخصيات من الطبقة السياسية المصرية وبعض رؤساء الاحزاب لذلك فاننا امام احتمالين: اما الدهاء السياسي ( حتى لو ذهبت المخيلة الى حد افتراض ان الاستفزاز كان مقصودا لتشكيل جو ضاغط على الانتخابات يؤثر على نسبة فوز "الاخوان"؟) او الجلافة غير المقصودة التي ينطوي عليها قرار تعيين الجنزوري على اساس حسابات ما تزال تقليدية جدا لا "ثورية" ومن ضمنها افتراض ان سمعة شخصية حسنة لرمز كبير سابق في السلطة و صاحب تجربة اختلاف مع الرئيس مبارك الذي أخرجه من الحكم… هما عنصران كافيان لتبرير الاختيار عند هذه البيئة الشبابية. خصوصا ان عنصرا آخر أضيف الى تسويق الدكتور الجنزوري انه لم يكن عضوا في اي وقت في "الحزب الوطني" المنحل، بينما رئيس الوزراء "الثوري" المستقيل عصام شرف كان عضوا في ذلك الحزب، بل كان عضوا لفترة في "لجنة السياسات" الشهيرة التي كانت اطار صعود جمال مبارك.
من ميدان التحرير الى مقر المجلس العسكري مسافة نفسية متفاقمة بين جيلين. تلاشت هذه المسافة في ميدان التحرير الاول فلماذا تظهر الآن اذا لم يكن المجلس العسكري هو نفسه المحتاج للخروج من نمط شديد التقليدية في ادارة الدولة.
هكذا يبدو ميدان التحرير الثاني بغلبته الشبابية العلمانية وكأنه يريد "قتل" أبوين لا واحد: النظام القديم ممثلا بالعسكر و"النظام الجديد" ممثلا بـ"الاخوان"… وهذه فرويدية سياسية من نوع معقد جدا. لكن التفاعل بين مساحاتها الجماعية المضطربة هو الذي يشكل مصدر الديناميكية المصرية الاول حتى لو لم يكن مضمونا مدى قوة الصيغة السياسية التي ستتولد عنها. لقد انتهت منذ ميدان التحرير الاول ولربما الى غير رجعة امكانية حكم مصر بـ"سهولة".ومن الآن فصاعدا ينبغي التفتيش عن مصطلح غير مصطلح "الاستقرار" للعثور على مفردات معبرة عن القوة المصرية الكامنة و"العائدة" بصيغ جديدة حتى لو بدت مشتتة بل يجري العمل من قوى خارجية خصوصا "الصديقة" على المزيد من تشتيتها.
انه على اي حال التحدي الاكبر الذي تواجهه النخبة المصرية الواسعة لا الجماهير العريضة. الستة الى ثمانية ملايين شخص الذين يتحركون منذ الانتفاضة الاولى في ميادين تحرير المدن المختلفة وفي أذهانهم شعارات ومشاريع متداخلة ومتناقضة لخدمة السبعين وبضعة ملايين المتبقية … وخدمة أنفسهم.

السابق
حزب الـله وجهاً لوجه أمام الخيارات الصعبة
التالي
منصور: لن ننفذ أي عقوبات اقتصادية ضد سورية