هكذا تعامل الإمام علي مع معارضيه ومنتقديه ومنافسيه

ضفاف – السنة الثالثة – شباط 2010/ العدد السابع عشر

يروي في سيرة الإمام علي (ع) أنه بينما كان يخطب مرة وإذ برجل يقاطعه ويقول عنه: قاتله الله كافراً ما أفقهه!! فوثب عُشّاق الإمام على الرجل لقتله وإذ بالإمام يمنعهم من ذلك قائلاً:
(رويداً رويداً إنما هو سبّ بسبّ أو عفوٌ عن ذنب)!
(نهج البلاغة)
فإذا كان السُباب في فقه الإمام لا يبرر للحاكم أن يعاقب السابّ عقوبة جسدية يُصبح من الأولى حينئذ أن يكون ممنوعاً على الحاكم في فقه الإمام بأن يعاقب معارضاً له معترضاً عليه بقلمه أو لسان في الأمور السياسية والفكرية.
ويروى أيضاً في سيرة الإمام (ع) أنه لما أتاه الزبير وطلحة (وهما من الصحابة المشهورين) – يطلبان منه الرخصة للخروج من المدينة إلى مكة لأداء الُعمرة، أذن لهما الإمام وقال:
(والله ما أرادا العمرة ولكنهما أرادا الغدرة أي الغدر)..
(ج2/ ص180/ تاريخ اليعقوبي).
ولما قيل للإمام (ع) أن يمنعهما من الخروج بعد علمه بغدرهما وأنهما سيخرجان عليه عسكرياً لاحقاً، رفض الإمام ذلك مُعلّلاً مراراً وتكراراً أن قاعدته في العمل السياسي لا يمكن أن تقوم على العقل قبل الجريمة ولا على المحاسبة قبل التوّرط في سفك الدماء!!
أي لا شرعية في فقه الإمام (ع) للإقامة الجبرية ولا للإعتقال الاحترازي ولا للحرب الاستباقية وخصوصاً (بل أُمُ المحرمات في فقهه) أن يكون ذلك مع معارضيه من أبناء مجتمعه، ومع منافسيه من رعايا دولته وسلطته !!
ولم يستخدم مرّة في سيرته العنوان الثانوي ولا عنوان المرحلة الاستثنائية ولا عنوان ضرورة المصلحة العليا للدولة والدين لم يستخدم هذه العناوين – (المخترعة حديثاً) – مبرراً للخروج عن قاعدته الشرعية في مواجهة خصومه السياسيين رغم الظروف الحرجة والمعقدة والصعبة التي صنعها خصومه في وجهه بكل الوسائل غير النظيفة والأدوات غير الشريفة.
ويروى أيضاً أن مجموعة قليلة محدودة جداً من الصحابة قد امتنعت عن مبايعته خارجة بذلك عن إجماع الأكثرية الساحقة التي بايعته حُرّة مختارة غير مُكرهة، ومن هذه الأقليات الخرّيت بن راشد الذي قال للإمام (ع):
لن يكون لك عليّ سلطان ولن أشهد الصلاة معك ولن أئتمر بأمرك، فقال له الإمام (ع):
(لك ذلك مع عطائك كاملاً غير منقوص – "أي لك راتبك المالي من صندوق الدولة – شريطة ألا تعتدي على أحد فإن اعتديت عاقبتك بما تستحق")..
(ص 82/ج 3/ موسوعة الإمام علي/ مغنية).
ويدل هذا الكلام دلالة واضحة على أن الحاكم في فقه الإمام من واجبه أن يمنح المعارض والمعارضة والمعترضين حقاً صريحاً في الانتقاد والنقد، في الاعتراض والمعارض سراً وعلانية طالما أن المعارضة بعيدة عن اللجوء الى وسائل العنف المادي الذي يسيء الى أمن المجتمع ويُخرّب مؤسساته، وأن يضمن لها حقوقها المالية دون أن يبتزّها بها لمصادرة حريتها وإرادتها واستلاب قناعاتها بتجويعها أو تهديدها أو نفيها أو اعتقالها أو إعدامها تحت أي ذريعة وحجبة.
ويروى أيضاً أن فريقاً من المسلمين اصطلح على تسميتهم بـ"الخوارج" أعلنوا الحرب على الإمام (ع) بعد اتهامه بالكفر (وليس بالظلم ولا بالبخل ولا بالجهل) وقتلوا كل من لم يُكفّر الإمام (ع) من المدنيين الأبرياء، وقف الإمام في وجههم قائلاً لهم:
(لي عليكم تسليم قتلة عبدالله بن خباب وزوجته الحامل، ولكم علي ثلاث خصال:
ألا أمنعكم مساجد الله أن تُصلّوا فيها.. وألا أمنعكم حقوقكم المالية من بيت المال وألا أبدأكم بقتال حتى تبدأنا).
(نهج السعادة/ محمد باقر المحمودي)
لم يكن يقهر أحداً على مبايعته وتقديم الولاء لسلطته ولم يمنع أحداً الخروج من مبايعته بعد أن بايع، لقد أعطى للأفراد والجماعات الحرية التامة في أن تكون مع سلطته أو في صف معارضته شريطة ألا تلجأ الى السلاح لفرض مواقفها ورؤيتها بالقوة العسكرية، لقد أعطى المعارضة الحرية التامة مع ضمان كامل لها أن تحظى بحقوقها المالية من صندوق الدولة!! هذه الحقوق قد منحها الإمام (ع) للمعارضة رغم إيمانه بعصمته وإمامته المنصوبة من الله تعالى، ورغم إيمانه بأن الله تعالى قد جعل الحق يدور معه كيفما دار، فإذا كان الإمام المعصوم كذلك فكيف ينبغي أن يكون الحاكم غير المعصوم مع المعارضة؟! وكيف يجب أن تكون الأ؛زاب الإسلامية مع معارضيها؟
ويروى أيضاً أن عُشّاق الإمام (ع) طلبوا منه أن يقوم، باجراءات أمنية عسكرية لاعتقال أو اغتيال بعض أفراد مجتمعه ومعسكره الذين كانوا يهربون الى معسكر خصمه معاوية، فرفض الإمام أيّ إجراء في حقهم قائلاً:
(أنهم أهل الدنيا مقبلون عليها).
والإمام علي (ع) رفض السلطة قائلاً: (دعوني والتمسوا غيري… وإن تركتموني فأنا كأحدكم ولعلي أسمعكم وأطوعُكُم لمن ولّيتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً، خيرٌ لكم مني أميراً) ..
نهج البلاغة/ من كلامه/ 92/
رفض السلطة مع إيمانه ويقينه أنا حقه الشرعي على ضوء النص أو على قاعدة الديموقراطية التي مُسخت بشورى السيوف والتهديد بقطع الأعناق!! رفض الإمام السلطة ورفضت الأكثرية ممانعته وإحجامه وزهده فيها وألحّت عليه بإصرار بالغ ليوافق فاستجاب لرغبتها الجامحة ووافق على تولّي السلطة على مبادئ كان من أبرزها:
المساواة (التي هي وجه العدالة وقلبها) في الحقوق المالية من دون فرق بين عربي وغير عربي ولا بين هاشمي وغير هاشمي ولا بين قرشي وغير قرشي ولا بين سيد وعبد، ألكل سواسية أمام ثروات الدلوة من زكاة وخُمُس وصدقات وخراج الخ (وهليا تُرى هكذا فقه الفقهاء؟!) للأسف كلا؟!
وعندها اعترضت بعض الشخصيات المحدودة التي كانت تجتهد بكل حيلة ووسيلة بالآية والرواية للحصول على بعض الامتيازات المالية والتمتع بها بملذات دنيوية مباحة وغير مباحة!!
قال الإمام علي (ع): (لو كان المال لي لسويّت بينهم! وكيف وإنما المال مال الله!
والله لو وجدته قد تُزُوِّج به النساء ومُلِكَ به الإماء، لرددته فإن في العدل سعة ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق)..
(نهج البلاغة)
هذا هو فقه الإمام (ع) في الثروات العامة كالزكاة والخمس والخراج والصدقات والهدايا التي هي ملك لله وإن كل ما كان لله فهو حق لأبناء المجتمع على قاعدة المساواة وإذا فضّل الله عبداً على عبد بالتقوى أو العلم أو العرق فتفضيله في الدنيا لا يمكن إلا أن يكون تفضيلاً معنوياً ولا يمكن أن يخرق بهذا التفضيل قاعدة المساواة في توزيع الثروات وإنما يحصل على ثواب أفضليته يوم الحساب عند رب الأرض والسموات. (وهل هكذا فه الفقهاء؟!)
هذا هو فقه الإمام (ع) الذي ضحّيتُ من أجله بعقدين ونصف العقد من عمري وسأبقى أضحّي حتى أحظى بمجتمع يقوم على تعاليم هذا الفقه من مجتمعات العالمين العربي والإسلامي التي يحزن عليها عقلاء البشر حزناً شديداً بعدما سبقتها إلى هذا الفقه يمجتمعات سويسرا والسويد وإيرلندا والنروج ولوكسمبورغ وكندا، وإن كنت مخطئاً في قراءة فقه الإمام (ع) وسيرته فسوف أكون مديوناً مدى عمري لأي مخلوق يُسعفني ويحررني من غربتي الموحشة القاتلة إن دلّني على بقعة من بقاع العالمين العربي والإسالمي قد ظفر مجتمع فيها بتأسيس سلطة عادلة على قاعدة المساواة في توزيع ثروات الدولة – (وليس ثروات التجار الأحرار في إنتاجهم وأملاكهم).
إن كنت مخطئاً في قراءة فقه الإمام فسوف أكون مديناً إلى منتهى أجلي لمن يدلني على مجتمع في العالمين العربي والإسلامي تعيش فيه المعارضة السياسية للسلطة في روضة الحرية ودوحة الأمان ليست مجوّعة ولا مرعوبة ولا وراء القضبان الحديدية بل ويعيش في ظل هذه السلطة أيضاً لاجئون معارضون سياسيون غربيون هاربون من قمع سلطاتهم الغربية كما يلجأ السياسيون المعارضون الشرقيون الى بلاد الغرب؟!
ومن بديهيات القول إن عقيدة الإمام بالمساواة غايتها حماية السلطة والمجتمع معاً من الفقر الذي إن وُجد فسرعان ما سيفتك بهما معاً فلا يترك سلطة مستقرة ولا مجتمعاً آمناً من أمراض شتى تُعطّل فيه كل تنمية وازدهار وتورطه في كل بؤس وتخلف وهذا ما أشار إليه الإمام بقوله:
(الفقر مدهشة للعقل منقصة للدين داعية للمقت وهو الموت الأكبر ولو تمثّل إليّ رجلاً لمزقته إرباً إرباً واحذروا صولة الكريم إذا جاع)
(نهج البلاغة)
فليس الفقر في فقه الإمام وليد محدودية ثروات الطبيعة كما يُنظّر سفسطائي مُتمنطق، ولا هو وليد المشيئة الإلهية (القضاء والقدر) كما يُنظّر ويزعم عالم ديني (قد قتله جهله وعلمه معه لا ينفعه وفق تعبير الإمام) بل الفقر وليد سياسة سلطة يُمسك بها حكّام أبغض شيء على قلوبهم مبادئ المحاسبة والمساءلة وتداولة السلطة وحرية النقد والضمان الاجتماعي والضمان الصحي العام أي (الديموقراطية).
(ولا يخفى على عاقل متأمّل بأن الفقهاء كالحكام أيضاً لأنهم يملكون السلطة على أموال الخمس والزكاة والصدقات والتبرعات وهي ثروات هائلة ويملكون نفوذاً في عقول شريحة واسعة من الناس، هذه السلطة أو هذا النفوذ للفقهاء ليس أقل تأثيراً من سلطة الحكام وليس طاهراً أو مطهراً من العيوب ذاتها والأمراض نفسها؟!
وليس الفقر يقيناً إلا وليد فقه وثقافة تجاوزت باجتهاداتها مبدأ المساواة وللأسف إنها تقوم على التمييز والامتيازات بين المخلوقات على أساس ديني أو مذهبي أو عرقي في توزيع الثروات والخيرات التي أجراها رب العدل والجود في الماء والأرض والسماء لا تُعدّ ولا تُحصى من أجل عباده كافة؟!

السابق
طيران إسرائيلي كثيف وعلى علو منخفض منذ العاشرة صباحا فوق النبطية وإقليم التفاح
التالي
ناصر: نحن ضدّ كل سلاح يُستخدم في الداخل