لا مفر.. من اللون الواحد؟!

يبدو المشهد السياسي الداخلي "متأزِّما" بعد جولة الرسائل الواضحة التي تناقلتها وسائل الإعلام في الأسبوع الماضي حول بند تمويل المحكمة والآثار المترتِّبة عليه في حال تمسَّكت الأكثرية بموقفها حياله بعدم إقرار التمويل، وسط إصرار رئيس الحكومة نجيب ميقاتي على دفع ما على لبنان من التزامات "افتراضية" تجاه المحكمة الدولية، رغم علمه اليقيني (ميقاتي) بأن المسألة خرجت بالكامل عن سياقاتها القانونية، وأن مساحة الخلاف السياسي بامتداداته الإقليمية باتت المحكمة الدولية الخاصة وتمويلها عنوانه اللبناني بامتياز.

هذا التصلُّب في المواقف، مع إعلان النوايا حول طريقة التصرُّف في المقبل من الأيام، إذا لم يتوصل المختلفون الى حل "وسط" غير موجود مبدئياً اصبح جليا، ويقضي باستقالة رئيس الحكومة من منصبه لتتحول حكومته الى تصريف الأعمال، وهو ما بات الجميع يتصرفون على اساسه. فرئيس الحكومة غير مستعد للتراجع عن موقفه لأن فيه "انتحاراً" سياسياً امام "أهل سنته" أولا، وأمام صورته الدولية والإقليمية ثانيا، حيث انه التزم عندما دفعته رغبته القاتلة الى إطلاق وعود لا سيما في موضوع المحكمة الدولية لم يقدّر انه لا يستطيع تنفيذها، معتمدا بذلك على رؤية كانت خطأ منذ البداية. إذ اعتبر أن حاجة البلد والأطراف التي أسقطت الحكومة السابقة ستدفع بهم الى الإذعان لمطالبه وسياسته انطلاقا من حاجتهم إليه، لكنه أغفل أن المرحلة التي يقودها لا تحتمل اي نوع من التسويات، وأنه قرأ خطأ عندما اعتبر أن "التسوية" هي الملاذ الأخير الذي طالما فرض نفسه في أقسى الأزمات.
 يعيدنا هذا الكلام الى سقوط الحكومة السابقة والظروف التي واكبتها وما دار من نقاشات حول "اللون الواحد" قبل أن يكلف ميقاتي بمهمة التشكيل، وهذا النقاش استمر بعد ذلك عندما "صفعت" الأقلية "المطرودة" من السلطة على خلفية "تآمر" رئيسها من موقعه في مجلس الوزراء على شركائه في الحكم، الأكثرية الجديدة التي خلفتها "صفعة قوية" عندما قررت عدم المشاركة، وهو الأمر الذي فاجأ هذه الأخيرة حيث انها بدورها وقعت في نفس الشرك عندما راهنت على أن يتم اللجوء الى "التسوية" في اللحظة الأخيرة بعد اسقاط الحكومة، وهو ما كان واجبا في حينه بحسب رؤيتها، لكن ذلك لم يحصل. 

تولى ميقاتي رئاسة الحكومة الحالية على اساس "الوسطية" التي يدعيها، وكان همّ أطراف الأكثرية استبدال فريق وزاري معاد بفريق مستقل وليس مؤيد أو مدافع عن سياستها وتوجهاتها، لكن ما ينحو اليه ميقاتي اليوم هو الرضوخ لمنطق الفريق الذي كان حاكما قبله عبر الإذعان لشروط الدول التي تسخّر المحكمة وتمويلها لتحقيق أهدافها السياسية، وهو بذلك يكون قد اعلن خروجه من الوسطية بعد أن مارسها تحت غطاء ما يرى فيه من وجهة نظره "مصلحة للبنان".
لا تتلاءم السياسة المتبعة من قبل رئيس الحكومة وما يمارسه من ضغوطات مع ما تمر به المنطقة من أزمات وحوادث جلها يندرج في إطار الصراع القائم بين محورين تشكلا بعد انتصار لبنان على العدو "الإسرائيلي" في عام 2006، ما دفع بالخاسرين فيه الى توظيف كل قضايا المنطقة صغيرة كانت أم كبيرة فقط لتجنب الإعتراف للبنان بنصره في حرب لم يستطع العرب خوضها في تاريخهم مع كل ما استتبعها من تأثيرات اجتماعية وثقافية. وبالتالي فإنه من غير المسموح بالنسبة لأصحاب الإنتصار الذي اهدي للبنانيين ورفضه قسم كبير منهم أن يتم الإلتفاف على المنجزات والمكتسبات انطلاقا من رؤى ضيقة كالتي يسير فيها رئيس الحكومة وفريقه بعد انسحابه من وسطيته اللبنانية والإقليمية والدولية باتجاه منطقته الصغرى على أبواب الإنتخابات التي بدأت تطل برأسها باكراً.

ليس امام الأكثرية الحالية إلا العودة الى حكومة "اللون الواحد" مع ما يفرضه ذلك من مسؤوليات كبرى عليها أن تواجهها، ولا خوف من ذلك بوجود كفاءات ضمن فريقها قادرة على تحمُّل المسؤولية في ظروف صعبة تمر بها المنطقة لا سميا ما تتعرَّض له سورية التي لا يمكن فصل أزمتها عمَّا يحصل في لبنان، ولا يمكن النظر الى ما يحاول العرب فعله هناك على أنه شأن خارجي بالنسبة للبنان وداخلي بالنسبة لسورية، علما أن المواقف التي اتخذها لبنان في الجامعة العربية لم تكن "صافية" إذ تعرض متخذوها لسيل من الإنتقادات من فريق الأقلية النيابية معطوفة على مواقف عربية ودولية لو تسنى لها لشملت لبنان بعقوبات تعمل على فرضها على سورية.

بند التمويل هو جزء من لعبة الصراع في المنطقة، ما يوجب على رئيس الحكومة التعاطي معه على هذا الأساس، بخاصة وأنه تسلم السلطة وهو مدرك افتراضا انه سيكون جنديا فيه. وإلا فلنستعد لحكومة "مقاتلة" من لون واحد.
لا يمكن لحزب الله وحلفائه في الداخل وفي الخارج أن يبقوا على دعواهم في أن قوة لبنان في قوته وأن هذا البلد أصبح جزءاً من معادلة المنطقة بل مؤثرا ورقما اساسيا فيها، والإبقاء في نفس الوقت على شركاء لا ينفكون يعلنون أنهم في المعسكر الآخر المعادي لسياسة القوة حيث لا مكان للوسطية أو الحياد.
الطريق الى تثبيت القوة ما زال ينقصها خطوة قد تكون في الـ 2013 أو ربما قبل ذلك.  

السابق
سامي الخوري: لبنان على مفترق طرق خطير بفعل رهانات البعض على جعله ساحة لخدمة الآخرين
التالي
عودة جنبلاط من بوّابة المستقبل