ثورة مصر المتجددة: شباب يموتون للحفاظ عليها

اتصلت بي اختي من بيروت تسألني عن اثر الأوضاع في مصر علينا ونحن في عداد وفد لبناني للمشاركة في ورشة عمل في القاهرة تحت عنوان "قادة من اجل التفاهم الديني". كانت اجابتي سهلة وضاحكة "بماذا تشعرين وانت في الزلقا اذا اقفلوا طريق المطار؟ ربما لا شيء، اذا لم يكن لديك سفر".
يبعد عنا ميدان التحرير نحو ربع ساعة في السيارة، نتأثر به طبعاً ولا يتأثر بنا بالتأكيد. عندما تشتد المواجهات تقفل كل الطرق المؤدية اليه والى اماكن كثيرة ايضا لأن موقع ميدان التحرير في وسط البلد وبالتالي فانه شريان حيوي للعاصمة المصرية الممتدة على مساحات شاسعة لاستيعاب نحو 15 مليون نسمة يقطنونها.

اصطحبتها اعلامية مصرية زميلة الى حدود تلك الساحة – الميدان، فضلت عدم وصولنا الى وسطها بعد مشاهدتنا رجال شرطة يمنعون شباناً من الدخول، خوفاً من تطورات دراماتيكية لم تتأخر وسقط بنتيجتها نحو ثلاثين قتيلاً، اضافة الى عشرات الجرحى. المواجهات تجذب المزيد الى الساحة، وربما هو دور الاعلام في تحريك الناس بعد تأجيج مشاعرهم.
الميدان، ميدان التحرير، بات ساحة تشل الحركة الاقتصادية والحياتية للعاصمة الكبيرة العصية على الضبط اذا ما تحركت اوصالها، لكنها لم تتحرك. كأن الامور مضبوطة في ذلك الميدان وبعض الطرق المؤدية اليه. في الشوارع الأبعد لا ثورة، بل حياة طبيعية. يريد الناس ان يكملوا حياتهم الطبيعية، فإذا تعطلت اعمالهم جاع معظمهم.

لكن الثورة ليست للفقراء كما يظن البعض. ليست للناقمين على طبقة الاغنياء، ليست للجائعين الطامعين في مآدب الميسورين المتخمين. الثورة مزيج من كل شيء. لم يتحرك فقراء للسرقة، او لتكسير واجهات المحال والشركات، باستثناء حوادث قليلة يستغلها البعض. الثورة في مصر مجتمع بكامله. المفكرون والصحافيون واساتذة الجامعات كلهم تبدلوا، تنشقوا رائحة حرية ما، حتى ان الاعلامي في التلفزيون الرسمي سأل عبر الهواء مباشرة "ترى من الذي قرر ان يقطع برنامجي لينتقل الى بث مباشر لا ضرورة له، واحرجني امام ضيوفي. اطلب الى وزير الاعلام ان يعمل لضبط الأمور في المحطة". لم يخف من فقد وظيفته التي طالما صمت للحفاظ عليها." مرشح قال انه لا يجوز الابقاء على العسكر في الحكم، وانه لا يجوز اجراء الانتخابات قبل تعديل الدستور بطريقة مدروسة ليصير عصرياً يواكب الثورة وهي الفرصة التاريخية للشعب المصري.
اما سائق التاكسي فقد قال لنا من انه يرفض الابقاء على الطبقة "المعفنة" في الحكم ويريد انتخاب شباب جدد لأنهم المستقبل وسيختار اللائحة الشبابية والمتنوعة خصوصاً التي تضم اقباطا لحفظ التنوع في المجتمع المصري.

هكذا اذاً هي الصورة من قريب، لا تنقل وسائل الاعلام حقيقتها. ليست عصياناً هدفه الفوضى واثارة الفتن، وان يكن الاسلاميون في مقدمها، هي محاولة لتحقيق كسب كاد ما بعد الثورة ان يضيعه. تخرج الثورة خالية المكاسب الا من اسقاط الرئيس حسني مبارك، وابعاد نجله جمال من الوراثة السياسية لوالده. لكن الوجوه الاخرى لم تتبدل، العسكر في الواجهة. هم السلطة العليا، والحكومة تتقدم باستقالتها الى المجلس العسكري وهو يرفض او يقبل، وهو يعدل الدستور لابقاء سيطرته قائمة باستمرار.
ننظر نحن من بعيد فنرى المليونية صارت خمسين الفاً. نحكم على هؤلاء بأنهم لا يعرفون ماذا يطلبون. ونراهم بعين الناقد للاسلاميين. لا نطلع على حقيقتهم. هؤلاء وقد سقط منهم شهداء، هم النبض الحقيقي للثورة المصرية، وهم الذين سيضمنون لها بعض المكاسب الحقيقية.

يقول احمد علاء وهو من ابرز رواد الميدان: "انا طالب جامعي. هجرت مقاعد الدراسة وقصدت ميدان التحرير. ربما أُقتل لتحيا مصر. لقد عشنا في زمن حسني مبارك كل انواع المذلات. نحن شعب مثقف وواع سياسيا لكن لا يحق لنا التعبير. تحدثوا عنا باستمرار. قالوا عنا ما اعتبروا اننا نريد قوله. كفى. وهذا المجلس العسكري هو الواجهة لحكم حسني مبارك. فكيف نقوم بثورة ولا نقضي عليه؟".
يجيب زميله محمود: "مصر لن تصير علمانية ومقياس الثورة ليس العلمانية. فهي ليست كذلك في نشأتها ولا في مجتمعها، لكنها لن تكون اسلامية متشددة. ثمة مجموعات اصولية في كل دول العالم. الشعب المصري فخور باسلامه ومتمسك به، لكنه ايضا متمسك بالاقباط، ومتمسك بالقيم الاجتماعية المشتركة. انت تخاطب الناخب المصري بالقيم الاجتماعية فتكسب صوته. لا ضرورة للحديث في الدين. بعض العلمانيين يهاجمون الاسلاميين بهدف تشجيع قيام مجتمع علماني. هذا امر مستحيل. للدين الحيز الاكبر في حياة المصريين. والقبطي كما المسلم لا يقبل العلمانية، لأنه يرى فيها الحاداً لا فصلاً للدين عن الدولة".
اما الاعلامية لمياء فتقول لـ"نهار الشباب": "لا تخافوا على مصر. ستسوى الامور في الداخل من دون اي تدخل خارجي. واي محاولة من الخارج ستوحد كل المصريين. الامور تمضي الى الافضل، رغم ما يجري في ميدان التحرير. لكن التغيير بدأ وهو يحتاج الى بعض الوقت".

ناشط مسيحي يرى ان الثورة ستحمل 30 مليون ديكتاتور الى الحكم، وان الاوضاع كانت افضل في ما سبق. ولدى سؤالنا اياه عن دور الكنيسة في الدفاع عن الحرية، يجيب: "نعم الكنيسة تدافع عن الحرية لدى من يقدّر قيمتها. اما ان تجاهد لحرية تتحول فوضى ورفضاً لك واضطهادا، فلا ضرورة لهذا الامر". ولكن هل تكون ظاهرة صحية ان تناهض الكنيسة ثورة من أجل التغيير؟ يقول "الكنيسة تقف اليوم على الحياد، لكنها تراقب بعين الناقد وهي تتخوف من مخططات قد يُدفع اليها الشعب المصري من دون ان يعي نتائجها الا متأخرا. أما الشباب الاقباط فهم يشاركون في ما يسمى الثورة كأقرانهم في المدن والقرى".
هذا التباعد في الرؤية لا يقتصر على الاقباط كما تقول لمياء بل يتعداه الى طبقة التجار والصناعيين الذين يرون في الثورة انفتاحاً اقتصاديا، ولكن اطالة عمرها يسبّب لهم الخسائر الفادحة. وهم بدأوا يتحدثون بصوت عالٍ ان "كفى". ويعتبرون ان الخطوة الكبيرة تحققت باسقاط مبارك ومنع الوراثة السياسية وان الانتخابات المقبلة ستكون بداية التغيير.
ويتخوف ناشط واعلامي من ان تكون الحركة المستجدة قائمة بهدف تأجيل الانتخابات او اظهار الاوضاع الامنية متفلتة لطلب النجدة من المجلس العسكري.

اين الشباب
في كل هذه المعمعة؟
الواقع ان الناشطين في الميدان وفي ساحات مدن وقرى اخرى هم الشباب. عليهم قامت الثورة، وسيشكلون وفق استطلاعات رأي الحركة للانتخابات المقبلة، وسيفوز عدد كبير منهم.
الشباب الذين تحركوا في الميدان، تحركوا ايضا في كل المواقع. وهم يستعدون لتسلم مناصب حساسة ومتقدمة في مختلف القطاعات. وبدأوا يدفعون باتجاه تغيير في الجسم الاداري للحكومة.
في الاعلام، ظهرت معالم الحرية، الحوارات المتلفزة والاذاعية تبدلت، ونوعية الكتابات في الصحف بدأت تتطور. يقول اعلامي لبناني كبير في هذا المجال: "اذا اردت ان تطلع على صحافة عصرية حديثة متعددة ومواكبة عليك في هذه الايام ان تقرأ صحيفة "الأهرام" المصرية".
الثورة المصرية المشتعلة مجدداً تتلمس مستقبلها، وهي تسعى جاهدة لعدم اضاعة فرص محققة، كما حصل في ثورة الارز في لبنان عام 2005، بل تسعى الى المزيد ولو كان ثمنه باهظاً في الارواح. والشباب عصبها جاهزون دوماً لدفع الثمن لـ "تحيا مصر 

السابق
عمليّة أمنيّة متطوّرة
التالي
اسود: التغيير والإصلاح لن يوافق على تمويل المحكمة