اللاجئون السوريون في شمال لبنان يطالبون بحقهم في الهروب من الموت !

الرحلة الى وادي خالد صعبة. تلك المنطقة التي تقع شمال لبنان على حدوده مع سورية، على بعد أكثر من 160 كيلومتراً من بيروت، تحتاج إلى أكثر من ثلاث ساعات في السيارة. منطقة جبلية ترتفع أكثر من 500 متر عن سطح البحر، لكنّها تسمّى وادي خالد كونها تقع في وادٍ.
وجوه سكان الوادي السمراء تشبه الأرض. هم مزارعون، مثل معظم سكّان الحدود، جلّهم كان يعمل في تهريب البضائع بين لبنان وسورية قبل مارس الفائت، حين صارت الحدود أقرب إلى «المستحيل» بسبب تدفّق آلاف اللاجئين السوريين الهاربين من «جحيم الشبّيحة».
المنظمات الإنسانية تصرّ على أنّ عدد اللاجئين إلى الوادي لا يتعدّى اربعة آلاف، لكنّ السكان يتحدثون عن أرقام أخرى. فالآلاف الأربعة هم اللاجئون الذين لا مكان يلجأون إليه خارج عيون هذه المنظمات، فيما آلاف غيرهم حطوا رحالهم في الوادي قبل أن ينطلقوا إلى مناطق أخرى في الشمال، بين عكار وحلبا وطرابلس وصولا حتى إلى بيروت.

حمزة الخضير، الشاب العشريني الذي تحدثنا اليه  فيما كان يقود دراجة نارية، وسيلة المواصلات الأكثر انتشارا في الوادي، يؤوي في منزله ثلاث عائلات مؤلفة من 17 فرداً: «الزوار يتغيرون، فبعضهم يأتي لشهر أو اثنين ويكون حدادا أو نجارا أو دهانا، وحين يؤمن عملا يترك منزلي ويستأجر منزلا في مكان آخر ويعيل عائلته ولا يعود يحتسب من اللاجئين»، ويضيف: «اللاجئون أكثر بكثير مما يقولون، لكنّهم ما عادوا يعتبرون لاجئين وباتوا سوريين يعيشون في المنطقة».

والسوريون في الوادي لا يعيشون في منازل السكان فحسب، فكثيرون منهم يعيشون ضمن مجموعات في بيوت كبيرة، مثل بيت أحد شيوخ المنطقة الذي يسكنه نحو خمسين منهم. في هذا المنزل التقينا مصعب العكاري النازح من تلّكلخ قبل اربعة أشهر، والذي راح يشكو إلينا مظالم بعض الاحزاب اللبنانية مؤكدا انه يتعرّض مع رفاقه النازحين لمضايقات يومية: «جماعات الأحزاب القريبة من النظام السوري لا توفرنا، وقد علمنا ان هناك لوائح باسماء مطلوب تصفية اصحابها او تسليمهم للقوات السورية. كما ان حواجز قوات الامن تتعرض لنا».
 وناشد العكاري «قوى 14 مارس ان تحمينا باعتبارنا لاجئين ولسنا نازحين، وللاجئ حقوق المواطن كما تعلمون». هكذا، بعدما طالب هؤلاء اللاجئون بالحريّة ها هم يطالبون بحقوقهم في لبنان، وخصوصا حقهم في «الهروب من الموت»، على ما قال مرافقنا في جولتنا، ابن الوادي، أحمد ياسين.
اللاجئون السوريون يحبّون منسق الأمانة العامة لـ «قوى 14 مارس» فارس سعيد الذي غنّوا له حين زارهم قبل أسابيع، ويثقون بالنائب عن حزب «القوات اللبنانية» أنطوان زهرا ويكنّون مودّة للنائب السابق الياس عطا الله. كل ذلك يؤشر الى أنّ السوريين الهاربين من شبّيحة الرئيس بشار الأسد، يطلبون النجدة من خصومه السياسيين.

رفيق مصعب العكاري في السكن، مصطفى حلّوم، نزح ايضا من تلكلخ وعبر الحدود مع عائلته في ليلة ليلاء. ثم حكى عن خطف ابن عمّه، عدنان حلّوم، قبل شهرين ونصف الشهر على أيد لبنانية: «جئنا في مايو، حين اقتحم الجيش تلكلخ وقصفتنا كتائب الاسد المجرمة. يومها، سقط بيننا قتلى وجرحى وسرق عناصر الامن والشبيحة بعض الجرحى وسلموهم جثثا الى اهاليهم بعد فترة طويلة، ومنهم من مات تحت التعذيب». واكد انه باق في الوادي «إلى أن يسقط النظام»، شاكيا من المضايقات: «خطف لبنانيون ابن عمي وصديقه نضال حيدر ولا نعرف عنهما شيئا حتى اليوم، كلّ ما نريد أن نعرفه أين هما ولماذا خطفا وما الذي يجب أن نفعله ليعودا».
مصطفى جريء. غيره خافوا ذكر أسمائهم خشية أذيّة أقربائهم المخطوفين: «إذا تحدثنا فإنّ الشبيحة سيقتلونهم»، قال أحدهم رافضا ذكر اسمه.

في المنزل نفسه، التقينا أيضا بعض الأطفال الذين يتذكرون المغني الشعبي السوري ابرهيم قاشوش، الذي كان يقود التظاهرات قبل أن يقبض عليه الشبيحة ويقطعوا حنجرته ويذبحوه. من هؤلاء سندس، ابنة عماد الحجولي، التي قتل الشبيحة والديها وأسروا بقية افراد العائلة. ابنة الاعوام السبعة تحكي ما جرى بجمل بسيطة من دون دموع، كأنها تروي قصة سواها، أو لعلّ الألم تمكّن منها حتى صار جزءا من صوتها: «قتلوا أبي وأمي وقتلوا أهلي وحبسوا عماتي وخالاتي. سورية كلها تهدمت. نريد ان يسقط بشار الاسد وأن نعود الى بلدنا ونعيش بسلام، ولا نريد ان يقصف الجيش السوري».

ويحكي محمد دويبي، ابن الاعوام الثمانية، لأنّه يتألّم: «يجب أن يسقط الرئيس السوري لان الناس يموتون في تلكلخ وحمص ودرعا ونريدهم أن يحيوا».
اما حذيفة حلوم (ثمانية اعوام) فيبدو كأنّه كبر عشرين عاما منذ شاهد الطفل حمزة الخطيب مقتولا بهمجية: «النظام الفاشل المجرم يجب ان يسقط. هذا النظام يجعلني أشعر بأنني مثل حمزة الخطيب، الطفل الذي قطّعوه. اشعر بالاسى والخزي لأنّ هناك اكثر من 200 طفل قتلوا ونحن هنا مهجّرون بسبب النظام السوري». ويضيف: «الشعب يريد اسقاط النظام»، فيصفق له الكبار والصغار.

هؤلاء الأطفال الذين ضاع عامهم الدراسي مع ضياع بيوتهم وتشتت عائلاتهم بين المقابر والمنافي والداخل المعذب، يرددون في الوادي مع أهاليهم أغنيات قاشوش وينتظرون الحرية.
لكن اللاجئين ليسوا وحدهم من يعاني، فأهالي وادي خالد أيضا يعانون العَوَز في ظل احتضانهم اللاجئين، ومنهم حمزة الخضير: «في بيتي ثلاث عائلات سورية عدد افرادها 17. تعرفون الاطفال وحاجاتهم، والحريم كما تعلمون ضلع كاسر ونحن لا نملك المال الكافي لإعالة هذه الأعداد ولا نستطيع في الوقت نفسه أن نرميهم في الشارع أو أن نتخلّى عن واجبات الضيافة».

يطالب حمزة بـ «حليب للأطفال ووسائل للتدفئة في الشتاء وما تيسّر من أهل الخير والدولة اللبنانية»، مكررا ان «الأخوان السوريين ضيوف ولن نتركهم، لكنّنا لن نصمد من دون مساعدات».
أما أحمد الحميد، الشاب الذي يتنقل طوال النهار على دراجته النارية السورية المصدر، فيعاني تعديات الجنود السوريين على أهالي الوادي. يحكي انه كان عابرا على دراجته قبل ساعات من لقائه ايانا، حين بدأت القوات السورية إطلاق النار بلا سبب: «رميت نفسي بين الأشواك لأحتمي من الرصاص ما أدّى إلى إصابتي بجروح طفيفة، ولم أعرف سبب إطلاق النار حتى الآن».
انه واحد من عشرات الأهالي الذين يعانون التعديات السورية اليومية على الحدود اللبنانية، وآخرها بايدي الهجانة السورية التي خطفت شابين من أهالي الوادي في 22 نوفمبر إلى جانب التعديات عبر مناصري أحزاب موالية لسورية في المنطقة.

في طريق العودة من الوادي، توقفنا في منطقة حلبا التي تقع بين طرابلس والوادي، حيث التقينا بعض الجرحى السوريين الذين يصلون يوميا إلى مستشفيات في شمال لبنان. اول جريحين رفضا ذكر اسميهما خوفا من «أعمال انتقامية بحقّ عائلاتنا تقوم بها كتائب الأسد المجرمة وبحقّ أخوة لنا لا يزالون معتقلين». اللقاء كان في منزل من طبقتين، فارغ إلا من سريرين أعدّا على عجل كما يبدو ليحلا محلّ المستشفيات الشمالية التي لم تعد تستقبل في الأسابيع الفائتة سوى الحالات البالغة الخطورة.

المنزل الذي تضيق حاكورة أمامه بروث البقر وبالدجاج وتزنره مجموعات من الذباب، تشرف عليه امرأة هاربة أيضا من القمع في سورية فضلت عدم نشر اسمها ورفضت التقاط صور لها: «اخفي إسمي وصورتي لأنّ النظام اذا عرفني سينسف عائلتي كلها ويهدم البيت على أهلي ويقتل أخوتي المعتقلين منذ شهرين. بيوت كثيرة نسفت بعدما تحدّث أفراد هاربون منها إلى وسائل إعلام لبنانية أو أجنبية». وتضيف والدموع في عينيها: «نحن نقوم بعمل إنساني. يأتينا الجرحى من كل المحافظات السورية فنعالجهم ونهتم بهم. واحيانا يستمر العلاج شهرين او ثلاثة بسبب الاصابات برصاص متفجّر».

تقدّر عدد الذين عالجتهم خلال الاشهر الأربعة الماضية بـ177 «يعودون بعد أن يشفوا، لكن كثيرين منهم يعودون مع إعاقة دائمة». وتؤكد إنّ الرقم العام أكبر من هذا بكثير.
بعض الأطباء الشماليين يتناوبون على السهر على راحة الجرحى، إلى جانب بعض الشبان النازحين الذين انضموا إلى «تنسيقية علاج الجرحى» التي تأسست حديثا في شمال لبنان. من هؤلاء أيمن الحريري الذي انضم الى الجهاز التطوّعي السوري: «نحاول مساعدة الجرحى عبر تأمين سكن لهم ومعالجتهم ونحاول التواصل مع العائلات هنا بالتعاون مع أهل الخير اللبنانيين».

ولكن من يموّل هذا الجهاز؟ «ليس هناك تمويل خارجي أو منظّم، فقط بعض الأموال من أهل الخير. نحن 12 حتى اليوم وعددنا في تزايد مستمرّ».
نعود إلى الجريحين الراقدين على سريريهما. الأوّل قدمه شبه معطوبة على ما قال بسبب رداءة الجهاز التقويمي الذي زرع في عظامها. يروي انه كان يحاول ردّ بعض الفتيان عن مهاجمة مركز لقوات الأمن في درعا، حين أصيب برصاصة في قدمه وغاب عن الوعي ولم يصح إلا في احد مستشفيات الشمال: «اهتموا بي كثيرا هنا وأنقذوا حياتي، ولكن تبين أن الجهاز الذي ركّبوه في قدمي عتيق وتسبب بلي عظامي». ويضيف ان المستشفى رفض إجراء عملية له بعد ذلك «لأنّ الحكومة توقفت عن تغطية كلفة علاج الجرحى عبر الهيئة العليا للإغاثة، وها أنا مهدد بان أصير معوّقا إذا لم يركّب جهاز بديل في قدمي اليسرى».

على السرير الآخر شاب أصيب في قدميه ووصل إلى عكار في عملية «كوماندوس» طبية: «كنا نحو 400 شخص في تظاهرة سلمية، وفجأة وصلت حافلات نزل منها الشبيحة وبدأوا بإطلاق النار عشوائيا لتفريقنا، فأصبت مع سبعة أشخاص. هربني بعض الأهالي حتى حضرت سيارة أقلّتني إلى منطقة بين البساتين لا أعرفها. هناك، بقينا في منزل لأكثر من ساعة، وعرفت لاحقا ان الأمن والجيش كانا يقفلان الحدود في شكل محكم. بعدها جاء شابان على دراجة نارية فاقلاني وأنزلاني قرب ساتر ترابي بين البساتين ثم أدخلاني بيتا حيث عالجني أحد الأطباء، وفي صبيحة اليوم التالي عبر الشابان بي الحدود إلى المستشفى في لبنان، حيث تولى الاهالي امري وساعدوني».
تلك هي حال اللاجئين السوريين في شمال لبنان، الذين باتوا «حالة» حقيقية، من جرحى ومعوزين وجائعين. يصرّون على أنّهم لاجئون لهم حقوق المواطن وليسوا نازحين، وبعدما طالبوا بالحريّة في بلادهم حيث قتل وسجن أهلهم وأصدقاؤهم، يطالبون بحقوقهم في لبنان حتى يزهر «الربيع السوري».  

السابق
سامي الجميل:على القضاء اللبناني وحده معاقبة الفاعل بجريمة الأشقر
التالي
الملف السوري إلى مجلس الأمن.. متى؟