هل سينسحب العسكر من بر مصر؟

مصر اليوم أمام أصعب لحظات تاريخها الفاصلة وهي مرجل يغلي بتراكمات لعقود طويلة ماضية أسست لوقائع و منطلقات و توجهات من الصعب أن تتغير بين عشية وضحاها , أو أن تنقلب الأوضاع على عقبيها في لحظة فاصلة وسريعة من الزمن , مصر في أزمة بل أنها في غرفة العناية المركزة , فنزيف العقود الماضية لا يمكن أن تلتئم جراحه بمجرد بيان مقتضب يعلن إنسحاب رئيس و قيام منظومة عسكرية بدور البديل الجاهز و الإنتقالي الذي سينقل مصر بجرة قلم نحو آفاق الديمقراطية الحقيقية و التعددية و الإقتصاد المزدهر , و الوطن الحر و الشعب السعيد ؟

لقد بدأت مأساة مصر الحديثة و المعاصرة ليلة 23 يوليو عام 1952 , حينما تصورت حفنة إنقلابية من صغار الضباط القادمين من مدارس فكرية و منهجية مختلفة تبدأ بالإخوان المسلمين ولا تنتهي بمصر الفتاة أو البورجوازية الناشئة او التيارات اليسارية و الشيوعية الطوباوية , ان بإستطاعتها تغيير الأوضاع الإجتماعية و السياسية عن طريق الشعارات الحماسية أو التجارب السياسية المستنسخة كالإشتراكية العربية أو مجتمع الكفاية والعدل أو غيرهما من شعارات تلك الأيام التي إنتهت بمصر لأن تتحول ثكنة عسكرية و معسكر ضبط وربط , ودولة بوليسية إستخبارية من الطراز الرفيع الذي يضاهي بل يتفوق على مدارس القمع في دول أوروبا الشرقية السابقة , لقد تم إنهاء العهد الملكي و ترحيل الملك فاروق الأول و الأخير لينبت ألف ملك و امير جديد من طبقة "البكباشية" أو "الصاغات" أو الألوية , و ليكون الدعاء الشعبي المصري الشهير "ربنا يخلي إبنك ضابط"!!

هو المنهج المعتمد , وهو غاية المنى في المجتمع الذي شيدته حركة 23 يوليو الإنقلابية بقيادتها العصابية و المتوجسة و العامرة بالشكوك , و المفتقدة لاي هوية آيديولوجية حقيقية سوى أيديولوجية الحكم الفردي التسلطي المخابراتي الفاشل الذي قلص من مساحة مصر الجغرافية و نهب ثرواتها و جوع شعبها و فرض وصاية عسكرية على أجيال مصرية عديدة نشأت في ظل تمجيد العسكر و تحويل الدولة المصرية لإقطاعية سلطوية خاصة بهم , فرغم أن مصر تزخر بملايين الكفاءات في مختلف مجالات المعرفة إلا أن قيادتها لم تسلم يوما لشخوص من طراز طه حسين أو أحمد زويل أو نجيب محفوظ أو غيرهم من الأسماء الخالدة في سجل مصر التاريخي الحافل بالرجال و العطاء و الكفاءات , بل أن العسكر يسلمون الراية للعسكر في متوالية حسابية رهيبة أجهزت على مصر ودورها الحضاري و أثرت على البنية السياسية العامة في الشرق القديم بأسره , لقد غيب جمال عبد الناصر كل الزعامات السياسية المصرية و انقلب على كل رفاقه الضباط و أبعدهم عن مراكز المسؤولية , وساعة رحيله لم يكن معه من رفاق الماضي سوى أنور السادات الذي شيد أيضا نظامه الخاص بعد قضائه المبرم و بوسيلة إنقلابية أيضا على مجموعة عبد الناصر في السلطة المعروفة بمراكز القوى أي جماعة علي صبري و شعراوي جمعة و ضياء الدين داود "وبتوع التنظيم الطليعي" عام 1971 , لتنشغل مصر في الإعداد لحرب أكتوبر عام 1973 و التي أفرزت بدورها عدداً من القيادات العسكرية أختير أحدها وهو قائد سلاح الجو حسني مبارك ليكون نائب رئيس الجمهورية ثم الرئيس فيما بعد و الذي إستمر عهده الطويل حتى اقتلعته حناجر المصريين و تضحياتهم في ميدان التحرير في 11 فبراير الماضي , لتنطلق الحركة الشبابية المصرية بعيدا عن وصاية العسكر وحتى وصاية أهل الأحزاب التقليدية المعروفة في مصر ,

وحيث تحاول اليوم تصحيح الوضع من خلال تحجيم العسكر , و تقليص الدور السلطوي للمؤسسة العسكرية وهي مهمة صعبة المنال ولكنها في النهاية ليست مستحيلة , فالإنتفاضة القائمة حاليا و المشتعلة في الشارع هي في حقيقتها و بنيتها العامة و توصيفها النهائي تمرد على مخلفات إنقلاب 23 يوليو و على سيطرة العسكر و هيمنتهم المطلقة على القرار في مصر التي لايمكن أن تشق طريقها الديمقراطي و خيارها المستقبلي في ظل وجود المؤسسة العسكرية بمراكز قواها وبأساليبها الإفعوانية المعروفة في السيطرة على الدولة المصرية , ولكن في المقابل فإن إنتقال مصر بأمان نحو الديمقراطية و التخلص من مراكز القوى المعيقة لها لا يمكن أن يتم أبدا في ظل الفوضى و مهرجانات القتل و المطالبات غير الواقعية بالتغيير السريع , فتغيير أوضاع مابعد 23 يوليو لن تتم في يوم وليلة أو حتى في أشهر بل تحتاج الى نضال شعبي حقيقي و متدرج وتشييد نظام سياسي مدني يبعد البصمات العسكرية عنه وهي قضية محورية وليست سهلة بالمرة ولا تتحقق بين عشية وضحاها , مصر في أول طريق التغيير بكل تأكيد ولكن أمامها مطبات صعبة لايمكن تجاوزها إلا عبر الحوار والصبر بعيدا عن الحلول الدموية المهلكة , لقد أعلنت الجماهير المصرية موت إنقلاب 23 يوليو بطريقتها الخاصة , وتلك هي المعضلة… وإنسحاب العسكر من بر مصر اصبح مسألة وقت ليس إلا.  

السابق
سي آي إيه: الرقم المطلوب غير متوافر
التالي
الحرب على سوريا حقيقة أم زوبعة في فنجان؟