سي آي إيه: الرقم المطلوب غير متوافر

بعد الاعتراف الأميركي الإعلامي الذي لم تنفه سلطات واشنطن السياسية والاستخبارية، جاء دور الأجهزة الأمنية اللبنانية لتؤكد انقطاع محطة «سي آي إيه» في بيروت عن التواصل معها منذ نحو ثلاثة أشهر، على خلفية كشف جهاز أمن المقاومة لجواسيس أميركيين في لبنان

للمرة الأولى في لبنان، تقرر الحكومة استدعاء سفير دولة «صديقة»، للاستفسار منه عن عمل جهاز الاستخبارات التابع لبلاده في لبنان. فالأراضي اللبنانية مشهورة بكونها ساحة عمل لمعظم أجهزة الاستخبارات الأميركية. لكن ما هو غير مسبوق في هذا المجال، بدأ في حزيران الماضي، عندما أعلن الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، توقيف عدد من عملاء الاستخبارات الأميركية في لبنان. وبناءً على ذلك، ستمثل السفيرة مورا كونيللي أمام وزير الخارجية عدنان منصور، لتقديم إيضاحات بشأن ما تفعله الـ«سي آي إيه في لبنان».

قصة انكشاف خلايا التجسس الأميركي الأخيرة في لبنان لم تبدأ منذ إعلان نصر الله في حزيران الماضي. ولا هي بدأت عندما أوقف جهاز أمن المقاومة قبل كلام الأمين العام لحزب الله بأسابيع قليلة اثنين من المشتبه في تعاملهما مع الاستخبارات الأميركية، عبر السفارة الأميركية في عوكر.فقبل ذلك بأشهر، وبالتحديد في الأيام الأخيرة من عام 2010، كشف جهاز أمن المقاومة خلية تعمل لحساب الاستخبارات المركزية الأميركية، من خلال محطتها في السفارة في عوكر تحديداً. لكن اكتشاف الخلية حينذاك لم يغير شيئاً في واقع عمل المحطة في بيروت. استمر ضباط الاستخبارات الأميركية بعملهم كالمعتاد. ويرى متابعون لشؤون مكافحة التجسس، أن الاستخبارات الأميركية، كحليفتها الإسرائيلية، تتعامل غالباً مع خصومها باستخفاف، وترى أن كل إخفاق تواجهه هو نتيجة سوء أداء مخبريها، أو خطأ ارتكبته واستغله الأعداء، من دون أن تكلف نفسها عناء التوقف أمام تطور أسلوب عمل عدوها وقدراته. لكن ما جرى في نيسان وحزيران الماضيين، سواء في إيران أو سوريا أو لبنان، كان له وقع آخر على عمل الـ«سي آي إيه» في لبنان.

يجزم مسؤولون أمنيون لبنانيون، ممن هم على تواصل دائم مع الـ«سي آي إيه»، بأن الاستخبارات الأميركية خفضت وتيرة تواصلها مع الأجهزة الأمنية اللبنانية إلى الحدود الدنيا خلال الأشهر الثلاثة الماضية؛ فمنذ سنوات، اعتادت سلطات الأمن اللبنانية الحصول على تقارير شبه أسبوعية من الـ«السي آي إيه»، يتضمن معظمها معلومات عن المنظمات والشخصيات التي تصنفها الولايات المتحدة «إرهابية»، وبالتحديد، تلك المرتبطة بتنظيم «القاعدة». فعلى سبيل المثال لا الحصر، بدأت العملية التي أدت إلى قتل أمير فتح الإسلام عبد الرحمن عوض في ساحة شتورة صيف عام 2010، بمعلومة وصلت إلى الاجهزة اللبنانية من نظيرتها الأميركية، تتعلق برقم هاتف مشبوه. كذلك كان توقيف الشاب اللبناني ط. ب. (من بلدة مجدل عنجر، في حزيران 2010) مرتكزاً على معلومات أميركية مستقاة من محادثة إلكترونية بين الموقوف وأشخاص في مخيم عين الحلوة، ينتمون إلى ما يُعرف بـ«كتائب عبد الله عزام». وكان البريد الإلكتروني بين الطرفين يتضمن تعليمات عن تصنيع عبوات ناسفة اعترف الموقوف بأنه كان يعدها لتفجير حافلات للجيش اللبناني. لكن الرسائل بين الاستخبارات الأميركية والأجهزة الأمنية اللبنانية لا تقتصر على تقديم معلومات للطرف الثاني، بل تتعداها إلى طلب معلومات عن الجماعات التي تصنفها الولايات المتحدة إرهابية. وأيضاً على سبيل المثال لا الحصر، طلب العاملون في محطة «سي آي إيه» في بيروت الحصول على معلومات تفصيلية من الموقوفين ضمن ما يُعرَف بـ«مجموعة الـ13» (بداية عام 2006)، طالبة تحصيل أكبر قدر ممكن من المعطيات التي يملكونها عن تنظيم القاعدة في العراق وأميره أبي مصعب الزرقاوي. وعلى ذمة أكثر من مسؤول أمني لبناني، فإن التجاوب مع الطلبات الأميركية رهن بكل جهاز لبناني، واحياناً، يرتبط بخلفيات ضباط محددين؛ إذ يمتنع كثر عن تلبية الطلبات الأميركية أو يتجنبون الرد عليها.

ويؤكد مسؤولون أمنيون لبنانيون أن «سي آي إيه» تحصر طلباتها «بالقاعدة وأخواتها» ممن تضعهم على لائحة الإرهاب، «متجنبة طلب معلومات عن حزب الله والجهات المقاومة»؛ فتلك المعلومات، على حد وصف مسؤول أمني رسمي، تحصّلها الاستخبارات المركزية الأميركية بوسائلها الخاصة.
لكن هذه التقارير والطلبات اختفت من بريد الأجهزة الأمنية اللبنانية منذ نحو ثلاثة أشهر. وفيما يؤكد مسؤولون أمنيون بارزون أن الـ«سي آي إيه» علقت عملها في لبنان إلى أجل غير مسمى، يشير آخرون إلى أن بعض ضباط محطة بيروت لم يعودوا يردون على اتصالات نظرائهم اللبنانيين، وبعضهم الآخر، «نجد هواتفه مقفلة دائماً ولا نسمع سوى صوت المجيب الآلي للشركة قائلاً: إن الرقم المطلوب غير متوافر حالياً».

وفي المرحلة الأولى من غياب الأميركيين عن السمع، ربط بعض الضباط اللبنانيين بين هذا الأمر والوضع في سوريا وانكفاء جيش الاحتلال الأميركي إلى ثكنه في العراق. وفي الأيام التالية لإعلان الأمين العام لحزب الله توقيف عملاء للاستخبارات الأميركية، سأل مسؤولون لبنانيون رئيس محطة «سي آي إيه» في بيروت (الرجل الذي يقول أمنيون لبنانيون إنه يتفوه بعبارات تُصنَّف بالمقاييس الغربية في خانة «المعاداة للسامية» ــ سبقته في رئاسة المحطة سيدة تسلمت مهماتها خلال حرب تموز 2006) عن صحة ما ذكره نصر الله، فرد الأمني الأميركي بالقول: «لا نعرف شيئاً عما قاله نصر الله. وبالتأكيد، لا صلة لنا، في محطة بيروت، بما ذكره».

لكن ما ذكرته وسائل الإعلام الأميركية خلال الأيام الماضية أوضح الصورة أكثر لرجال الأمن اللبنانيين. وفسر بعضهم «تعليق السي آي إيه لنشاطاتها» في لبنان بأنه مرتبط بأمرين: الأول هو درس الأخطاء والثغر التي أدت إلى انكشاف جواسيسهم. والثاني هو خشيتهم على أمن بعض ضباطهم الذين يشغّلون جواسيس لهم في لبنان، مع ما يبقى في أذهانهم من تجربة مريرة عاشوها في ثمانينيات القرن الماضي، شهدت إحدى صفحاتها عملية اختطاف رئيس محطة الوكالة في بيروت وليام باكلي، «من قبل مجهولين»، وإعدامه بعد نحو 15 شهراً على اختطافه.

حزب الله والمستقبل والحكومة

عقد النائب حسن فضل الله مؤتمراً صحافياً في المجلس النيابي أمس، رأى فيه أن «الإقرار الرسمي الأميركي بوجود محطة لوكالة الاستخبارات «سي آي إيه» في بيروت تمارس أعمال التجسس على لبنان، هو اعتراف واضح وخطير بالاعتداء على السيادة اللبنانية والأمن القومي». وطالب فضل الله الحكومة بـ«التحرك فوراً» لإعداد ملف ورفعه إلى الأمم المتحدة. بدورها، استغربت كتلة المستقبل بعد اجتماعها أمس «ما نشرته بعض وسائل الإعلام الأميركية عن موضوع انكشاف خلايا تعمل في التجسس في لبنان لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، ورأت أن هناك أطرافاً رسمية مطالبة بالتحرك لتوضيح الأمور للرأي العام والشعب اللبناني، أولها الحكومة اللبنانية».  

السابق
إما تمويل المحكمة وإما ترحيل الحكومة!
التالي
هل سينسحب العسكر من بر مصر؟