لماذا تحدّث الراعي عن الميثاق والحياديّة؟

لم تكن ثمّة كلمة مقرّرة للبطريرك بشارة الراعي في عشاء المجلس الماروني، الأحد الفائت. غير أن أمراً طرأ في الساعات الأخيرة. كأن سيد بكركي تنبّه الى تزامن أمرين: أولاً اجتماع نادر لكل أركان النظام، من موالاة ومعارضة. وثانياً، تقاطع تاريخي لتطورات داخلية وخارجية، تستدعي أكثر من موقف ولفتة. فصار تعديل لبرنامج العشاء، وكانت كلمة للراعي. الذين كانوا على علم بذلك المستجدّ، لبثوا مشدودين الى كلمة غبطته. مترقّبين جواباً عن تساؤلهم: ما الذي قرر قوله الآن وهنا؟ حتى اكتشفوا أن خلاصة الأمر نقطتان: أولاً الدعوة الى عقد اجتماعي وطني متجدد، انطلاقاً من جوهر الميثاق ومقتضياته، وصولاً الى استكمال بناء «الدولة المدنية» في لبنان. ثانياً المناشدة اللافتة لإعلان «حيادية» لبنانية إزاء الصراعات العربية المستجدة أو المتجددة. فما هي أبعاد الدعوتين؟
كأن في الصرح وأوساطه قراءة للتطورات الراهنة تهجس باحتمال العودة الى تقاطعات تاريخية سابقة، على مستويات ثلاثة، داخلية وإقليمية ودولية، أدت الى إنزال كوارث كبرى بالوطن اللبناني الدائم الهشاشة والعطوبة. ذلك أنه في العقود الثلاثة الماضية، شهد اللبنانيون مثل هذه اللحظة مرتين اثنتين.

أولاهما، في الفترة التي بدأت مطلع الثمانينيات، وتوّجت في عام 1982. يومها بدا واضحاً أنه على المستوى اللبناني، كان ثمة انكسار في التوافقات الداخلية. سببه الموقف من السلاح الفلسطيني، وانشطار عمودي وأفقي حوله، ما جعل كل أزمات الدولة والكيان والوطن تتراكم وتتراكب حول ظاهرة «الأبوات»، وتتفاعل معها أو تنفعل بها. فصارت عناوين الإصلاح والمشاركة والضمانات والامتيازات وسواها من موضوعات النقاش الداخلي مادة بازار أو مساومة في لعبة السلاح الفلسطيني.
وفي تلك الفترة بالذات، ومع تعمّق واقع الانهيار الداخلي، بدأت تظهر عوامل انهيار إقليمي: الثورة الإيرانية، الحرب بين بغداد وطهران، التوترات بين دمشق وبغداد، وصولاً الى تكريس خروج مصر من الصف العربي بعد اتفاقيات كمب دايفيد، ما أعطى انطباعاً للمعنيّين بالوضع الشرق أوسطي، بأن اختلالاً قد تحقق في موازين القوى الإقليمية، يضاف الى الاختلال في الموازين اللبنانية الداخلية. فوق هذين المعطيين، بدا أن اختلالاً ثالثاً راح يتكوّن على المستوى الدولي، ولو انطباعياً. عنوانه ما سمّي في حينه تحوّل موسكو إلى «إمبراطورية مريضة»، مع مرض الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف، واندلاع معارك خفيّة وكامنة حول الخلافة في الكرملين.
هكذا، في لحظة اكتمال تلك «الاختلالات» الثلاثة، لبنانياً وإقليمياً ودولياً، حصل الاجتياح الإسرائيلي للبنان في حزيران 1982. وقد يكتب الكثير عن تلك اللحظة المأسوية. غير أن الأكيد فيها، أن حيثياتها كانت موقّعة على خلفية فرض تعديل على المستويات الثلاثة التي استدعت في انهياراتها ذلك الاجتياح. ففي قعر رؤوس المعنيين بذلك الحدث، كان ثمة «وهم» بتعديل الواقع اللبناني أولاً، نظاماً وتوازنات، وتعديل الوضع الشرق أوسطي ثانياً، سلاماً وتسويات، وتعديل الواقع الدولي ثالثاً، أحادية واحتكارات. وقد يكون ما عُرف في حينه باسم «مشروع ريغان» أفضل تعبير عن تلك الأوهام الثلاثة …

في النهاية، كانت كارثة على لبنان، خرج الكل منها خاسرين، مثخنين بالجراح في بيروت والجبل، وفي الناس والقيادات، ضحايا واغتيالات.
المرة الثانية التي شهدت تقاطعاً تاريخياً مماثلاً لم تتأخر كثيراً. كان ذلك نهاية عقد الكارثة الأولى. ففي أواخر الثمانينيات، ارتسم المشهد نفسه، وإن بأدوار مختلفة أو متبادلة. انهيار لبناني داخلي إثر حروب عامَي 1989 و1990، لم تكن تكفي وحدها قطعاً لانقلاب المشهد. غير أن المفاجأة المصادفة، جاءت لتراكم فوق ذلك الانهيار الداخلي، انهياراً إقليمياً بدأ في 2 آب 1990، حين أدار صدام حسين دباباته صوب الكويت، فانتهى الى بداية سقوطه، وبالتالي الى ضرب الركيزة التي شكلها في التوازن الإقليمي منذ خروجه منتصراً من حربه مع إيران. وليكتمل التقاطع التاريخي، كانت موسكو السوفياتية، في ذلك الحين بالذات، تلفظ آخر أنفاسها. فأقفلت حلقة الانهيارات، ليجتاح الجيش السوري لبنان، من ضمن حدث حمل في طياته أيضاً، مشاريع تغييرات في التوازنات الثلاثة نفسها: لبنانياً وإقليمياً ودولياً. فكانت كارثة ثانية، استمرت عقداً ونصف عقد. قبل أن تنتهي الى الخسائر نفسها، في لبنان وسوريا، في الحجر والناس والزعامات، ضحايا واغتيالات كبرى أيضاً.
كأن أيامنا الراهنة تشي باحتمال تقاطع تاريخي ثالث مثلّث جديد: انهيار لبناني داخلي، مع سلسلة انهيارات إقليمية متتالية، وسط انهيار دولي في مقوّمات «الإمبراطورية الغربية»، يدفعها للهروب الى الأمام، وللاندفاع بدل الانكفاء. إنه إرهاص كارثة جديدة، رمى الراعي شبكة أمان لتفاديها: الميثاق والحياديّة، وإلا فالثالثة قد تكون ثابتة: الانهيار للبنان. 

السابق
بشار للعيادة وماهر للقيادة!
التالي
… أن نشبه العالم!