سورية.. الإمساك بزمام المبادرة

دخلت سورية في حرب سياسية ودبلوماسية مباشرة مع الجامعة العربية، أو ما صار الشعب السوري يحب ان يسميها بـ"جامعة دول مجلس التعاون الخليجي العربية" بعد فشل المرحلتين الأولى والثانية من مقررات اللجنة الوزارية العربية، التي اضطلعت منذ اسبوعين بالملف السوري بحجة حجبه عن التدويل، في خطوة باتت مكشوفة الأهداف وهي اعلان العجز عن متابعة الملف لإحالته "قسرا" الى الوصاية الدولية عبر مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة.
يبدو أن الخطوات التي خطتها العاصمة السورية بالتعاطي مع مقررات اللجنة الوزارية العربية، استطاعت أن تجهض مبادرتها حتى الآن، ولكن ليس بهدف الإجهاض وحسب، وإنما لإرسال رسالة متوازنة تقول إن سورية ما زالت معافاة وهي قادرة على قبول او رفض أي مقترحات تراها مناسبة أم غير مناسبة، وهو ما اضطلعت به الدبلوماسية السورية التي نشطت لرد الهجمة السياسية العربية – الدولية وبتماسك كلي.

لم تَخَفْ سورية من التهديد الذي أطلق من أعلى المنابر الدولية، مترافقا مع تحركات في شتى الاتجاهات لدعم ما سمي بالمبادرة العربية، بل هي بادرت الى تقديم مقترحات لم يقبل بها فريق الجامعة، واعتبرها تُغيّر بشكل جذري ما قدمه حول ارسال "فريق مراقبة" لمعاينة الوضع على أرض الواقع في محاولة لفرض وصاية تحت مسميات مختلفة، وافساحا في المجال امام الجماعات المسلحة لالتقاط أنفاسها، بعدما تأكد أنها باتت تختنق أو هي على وشك، وذلك بحسب المصادر المتعددة التي أجمعت على أن تلك الجماعات لن تستطيع الصمود ما لم تُدعم من الخارج، وهو الأمر الذي تنبهت له دمشق، وسدت منافذه عبر سلسلة من الإجراءات اتخذتها السلطات السورية لإنهاء الوضع.   ما ميّز الساعات الثماني والأربعين الماضية هو أن سورية قد رفضت بقوة مقترحات اللجنة الوزارية العربية، التي كانت قد طلبت دعم المملكة السعودية في اجتماعها الأخير، فتجسد بحضور وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل شخصيا للتأكيد على صلابة الموقف، باعتبار أن قطر وحدها لا تعكس الجدية، وفي حين أن الرفض السوري لم يكن مباشراً، بل عبر طلب إدخال تعديلات على المقترحات العربية ما اعتبرته اللجنة وجامعتها رفضا هو في الحقيقة جاء من قبلها. وفي هذا السياق، فإن مصادر مقربة من دمشق قالت إن القيادة السورية لم تنزعج من رفض التعديلات، لا بل عبرت عن ارتياحها لهذا الموقف.
وما ميّز الساعات الثماني والأربعين الماضية أيضا تلك المسيرات التي انطلقت في سورية، رفضاً للتدخل الخارجي عربيا كان أم دولياً، وتأييداً للرئيس السوري الذي بدوره ميز الفترة نفسها عبر الكلام الذي أطلقه في إحدى الصحف البريطانية، وعكس من خلاله صلابة في الموقف تؤكد ما جرى تداوله من معلومات من أن الحوادث في سورية إنما تنحسر بشكل تدريجي، وأن الإعلام يلعب لعبة التضخيم، كما رسم الرئيس السوري خريطة طريق للخروج من الأزمة عبر تقديم الإصلاحات التي باشر بتطبيقها، ودعا المعارضين ممن لم تتلوث أيديهم بالدماء أو شاركوا بالتخطيط والتآمر مع الخارج بما يتهمهم بالخيانة لآمانة الوطن، دعاهم الى الحوار.
لقد أكد الرئيس السوري في اتصالات جرت بينه وبين حلفائه في المنطقة منذ يومين أن الحكومة السورية مسيطرة سيطرة كاملة على الوضع في البلاد، وأن الإعلام لا يعكس أبدا الواقع وأنه مغتبط من ردة فعل الناس على خطة الجامعة العربية، وهو أبدى شديد تأثره بالموقف الوطني والممانع للشعب السوري، الذي قرر المضي في معركته الكبرى ضد الخضوع، مشدداً على أن الإصلاحات ستتيح لجميع الشرائح والمكونات في المجتمع السوري أن تعبر عن رأيها في اختيار السلطة الجديدة من خلال انتخابات شفافة ونزيهة لحظتها الإصلاحات قيد التنفيذ، وهو الموقف نفسه الذي عبّر عنه الرئيس الأسد للصحيفة البريطانية أمس، ما يعكس صدق التوجهات التي يعتمدها في معالجته مصمما على عدم الرضوخ للضغوط مهما طالت الأزمة.
لم تنف مصادر سياسية مطلعة أن الأزمة في سورية كانت قد وصلت الى عنق الزجاجة من خلال ما عبّر عنه التحرك العربي، في حين أن المشهد قد بدا وكأن الامور باتت على شفير الانفجار، ما استدعى تحركا مكثفا إقليميا ودوليا ترافق مع صدور أمر عمليات على الأرض، لتفادي تداعيات الموقف العربي الذي لم ينجح بإقناع الغرب حتى الآن بالدخول مدخل الحرب على سورية كما حصل في ليبيا، وذلك لأن الغرب يعي تماما بأن كلفة هذه الخطوة ستكون عالية جدا وفي اتجاهات متعددة، الأمر الذي ليس في الحسبان على الأقل في المدى المنظور.
هذا الموقف عبّرت عنه بريطانيا رسمياً، كما عكسته مواقف فرنسا، وهو بالطبع موقف الولايات المتحدة، ناهيك عما أعلنه الرئيس التركي أمس من بريطانيا من أن أنقرة ليست في وارد التدخل العسكري في سورية، مع تطعيم ذلك بموقف سلس تجاه إيران حينما اعترف بأنها دولة مهمة في المنطقة. وبذلك يكون الموقف التركي قد سجل تراجعا في خطابه السياسي، علما أن عرب الخليج الذين يحاولون إبعاد "كأس السم" عن أفواهم لم يستطيعوا هذه المرة أن "يستأجروا" جيشا لخوض معركتهم ضد سورية الأسد لتغيير الأمر الواقع ولمرة واحدة فقط.
يبدو أن سورية استعادت زمام المبادرة من جديد عبر فتح معركة دبلوماسية حامية لن تقدم فيها أي تنازلات سياسية، مؤكدة في الوقت نفسه على أن الأزمة في سورية لن تحل إلا سورياً من دون أي تدخل خارجي حتى إشعار آخر. 

السابق
بيضون: الشيعة قلقون على مستقبلهم في المنطقة
التالي
عن مختبرات الشفاء الطبية في صور.. د.عطوي:عملُنا إنساني وليس تجارياً