قنديل وفراشات

لسنا بمعزل الآن عن كل الأشياء المحيطةِ بنا. لنا من هذا العالم «كلّه»، باستثناء ما بقي من أنفسنا فيه. كل ما فينا ليس لنا. حين تأخذ قدر حاجتك من الهواء، تلقي في الوقت عينه أضعافا منه، فلا يبقى لك من الهواء سوى حركةٍ فيزيائية تهمّ بها حين تريد دثر ما فيك إليها. إلى الدنيا، وعليك السلام.

لسنا بالقدر الكافي لأن نكون أحراراً قدر مطالبتنا للحريّة. كل ما نريده هو أكبر من استيعاب أنفسنا له، فأنت لا تطلب الحب لأنه يكفيك، بل لأنك تنتقل من اليابسة المقفرة تحت عتمة الشمس، إلى محيطٍ تغلغل ضوء القمر فيه. عمق المحيط لا يقاس بالأمتار، بل بما في جوف نفسك من محيط. أنت لست أنت بمعزل عن الحياة، الحياة فيك أكبر من روحك القاطنةِ في أرجاء نفسك، لا فيها تماماً.

لا يكفي أن تقول إنك سعيد لأن تكون سعيداً. ما أدراك أنك تعي معنى السعادة حين تكون السعادة أكبر من وعيك الممتثل لرغبات المحيط؟ وما أدراك حين يهيم جسدك على وجه الماء، بأن روحك لم تخرج من مكانها لتفيض عرض المياه وتغرقك في جوفها؟ أيّ غرقٍ هذا في جوف روحك وأنت لا تجيد السباحة فيك؟

تقول الفراشة المحلّقة حول قنديلك الصغير: قف حيث للوقوف اعتبار. لا تقف الفراشة ولا تهدأ إلا حين يتعب الضوء من دورانها، فيخفت رويداً رويدا، لتستعدّ المكوث. واعتبار الوقوف هنا حين تنطفئ الهالة حول عينيك، ولا تعد جديراً لأن تفتحهما على دوران الفراشة حول نفسها، تجلّياً لضوء العيون.

الرواية ليست سرداً لأحداث وتفاصيل عاشها كاتبها، بل هي أنت في مكان آخر من وجودك الحقيقي. الحياة لا تنحصر بمكان نعيش فيه. أن تعي معنى المكان، يعني أن تخرج منه. قل للمكان: أنا لاجئ، وللزمان: أنا طليق. أسقط تفلّتك من دائريّة الكون، وأعط الفضاء همّ الصعود.

إلى كتاب: رغباتنا هي التي تقودنا إليك. ولرغباتنا حق عليك. أشياء تعطي المعنى ملامحه.

في الابتعاد، لا نهرب من الحقيقة، بل إليها. نصبح في مواجهة مع الوحدة، ولا يبعد ضيرها سوى حيواتنا التي شحنّا بها أنفسنا قبل الرحيل. في النفس لا حياة واحدة، ولا حقيقة واحدة، فينا عشرات الحيوات التي فيها نتجدد ومن شفير أنفاس إحداها ننتهي.
في الابتعاد، تصبح أنفسنا أقرب إلينا، يصبح الكلام أشد انعتاقاً على المكان، لا على صاحبه.

يحاول أن يُخرج ذاته منه ويضمرها بكأس يكسر نصفه الفارغ، ليبقى في أوج امتلائه.

قبل أن تشتعل الثورة عرض الشوارع، هي حتماً شيء فاض عن نفسك، فخرج ليلتئم مع نزف الطريق. أنت والثورة توأمان خرجا من رحم أمٍ ثكلى. فإما أن تجهضك لتنثر روحك في الميدان، وإما أن تجهض الثورة، فتلتوي الراية. الأمّ تخرج من ابنها حين تئنّ الثورة، والثورة تنتزع توأمها حين تنقرع طبول الدماء، عالياً، عالياً فوق العروق.

يقول: أحبك أكثر من نفسي.
تقول: وأحب نفسك أكثر مني.
وفي مقام العشق لا يُسأل الطرفان أيّهما يحبّ أكثر، لا نحب في الحب بعضنا. نحبّ الحبّ أكثر.. أكثر!

حين التقينا أول مرة تجذّرت فيّ عيناك، ابتسمنا بأعين فيها وعد، فيها حق. استدرنا بعدها كالمتمرّسين بالغياب. لم أدر ما شُنّ على الباطن سوى هذا الحب. استغراب لهذا الغياب. استغراب يطالب بحق، حق عالق بلقاء آخر.

سيجارته شعلة كوهج الشمس. يضعها بين إصبعيه ليحرّف علامة الانتصار على نشوته. ويسارع في التقاط فراشة حطّت على ساعديه، ومن ثم يطاردها، كرجل متمرّس بذكائه.

لا يزال الليل أطول. وبال الحنين في الانتظار أقصر

حين نلتقي أخرجني من قصائدك كي لا تظل حزيناً.

ما قبل الروح كان العدم. يخرج الله من أرواحنا حين نحفّها بالعدم.  

السابق
حوري: بري يمارس سياسة حماية الحكومة
التالي
المشروبات الغازية..عدوّة النساء