اللغة العربية باللبناني

يكاد مشهد الأيام الأولى في كل صفوف الجامعة يكون متشابها: «شو اسمك؟ من وين؟ ليش اخترت هيدا الاختصاص؟ كأني شايف وجهك من قبل؟ بتشبه حدا بعرفه..». مضمون الأسئلة واحد، غير قابل للتعديل. لكن الشكل الذي تتخذه بعض الحوارات بين الطلاب قد يكون لافتا للغاية:
– حركات No way! Tu ressembles à ma copine. Les mêmes
تكمل الطالبتان رحلة التعارف على هذه الحال. بين جملة فرنسية وعبارة انكليزية قد «يزلّ لسان» إحداهما فتمرّ كلمة بالعربية، تذكّر المستمع بأنه ليس في أوروبا أو في أميركا مثلا، بل في بلاد يقال عنها إنها تنطق بالعربية.
ممّا لا شك فيه أن اللغة العربية تشهد تراجعا يبلغ ذروته في أوساط الشباب، أمام منافسين كثر: اللهجة العاميّة، اللغة المتداولة على شبكات الإنترنت، واللغات الأجنبية من جهة أخرى، وعلى رأسها اللغتان الفرنسية والإنكليزية.

اللغة الأجنبية أولا

تجد صوفي (اسم مستعار) صعوبة كبيرة في القراءة والكتابة بالعربية، على الرغم من أنها لبنانية لم تعش يوما خارج البلد. اعتادت صوفي التحدث بالفرنسية منذ الصغر، فقبل دخولها المدرسة لم تكن قد تلفظت بمصطلح عربيّ واحد. «بالبيت كلنا منحكي فرنسي كل الوقت، فما تعلّمت العربي أنا وصغيرة إلا لما فتت على المدرسة»، تشرح صوفي. جيف أيضا، لم يتعلّم العربية قبل عمر الـ4 سنوات، فأفراد عائلته قلّما يتكلمون هذه اللغة في ما بينهم. وبالتالي، لولا المدرسة لما كان جيف يتقن اليوم لغة بلده.
كذلك الأمر بالنسبة لإيليا، غير أن الشاب اللبناني من أم أوكرانية، عاش في أوكرانيا حتى عمر الـ4 سنوات. دخل المدرسة فور عودته إلى لبنان حيث تعلّم العربية لأول مرّة: «ما كان في داعي اتعلّم العربي لما كنت صغير، بالنهاية بدي فوت على المدرسة واتعلّمها. بس الروسي مين بدو يعلّمني ياه؟!».درس العربي.. «حِمل وراح»

تعامل أساتذة ايليا معه على أنه لا يجيد العربية، وساعدوه على تعلّمها ليتمكن من الالتحاق بزملائه. في المدارس الثلاث التي تنقلت فيها صوفي، أحد من أساتذتها لم ينزعج من عدم إتقانها العربية، تشرح: «بالمدرسة ما بيقولوا شي، لأن بيعتبروا انه هيدا شي كتير طبيعي. أصلا مش وحدي هيك.» بالفعل، حالة صوفي ليست بحالة خاصة أبدا. فجيف، الذي لم يحبّ يوما حصص اللغة العربية، كان ملّما أكثر بالفرنسية. فتوقف عن دروس العربية ما أن أتيحت له الفرصة، أي مباشرة بعد صف البريفيه. أما ليلى، التي عاشت في دبي قبل أن تعود إلى لبنان، ففضّلت اختيار صفوف اللغة العربية المخصصة للأجانب لكي توفّر على نفسها عناء دراسة اللغة بشكل متقدم.

العربية.. لسيارة الأجرة فقط

تتمنى دنيا، التي عادت مؤخرا إلى لبنان لكي تستقر فيه، لو أنها تتقن اللغة العربية. لكن الأمر لا يزعجها إلى هذا الحد: «لو ما كنت بعرف انكليزي مثلا كنت زعلت بس مش رح ازعل لأن ما بعرف عربي!». تعتبر دنيا أن لا حاجة لإتقان العربية في أستراليا.. ولا في لبنان. فهي قلّما تواجه صعوبة في التعبير. الكل في لبنان يمكنه التداول بالانكليزية، ومن لا يعبّر بها يمكنه فهمها بكل سهولة. وبالتالي لا شيء يحثّها على تعلّم العربية.
بالنسبة لجيف مثلا، الفرنسية هي اللغة الأساسية أما العربية فلا يستخدمها إلا «عند العازة»، كالتحدّث إلى سائق سيارة الأجرة مثلا أو في الدوائر الرسمية. رغم ذلك، لا يجد نتائج سلبية لعدم تداوله بالعربية، فبالنسبة له «كل العالم هون بتحكي 3 لغات، فا عادي كتير.. بيفهموا علينا». ايليا، بدوره، يبرّر تفضيله للغة الانكليزية بكل بساطة: «بحب العربي وبحكي عربي كتير.. بس برتاح أكتر لما عبّر عن حالي باللغة الانكليزية».

ذوقك وذوق الناس

عاشت صوفي في مجتمع ضيّق هو أقرب ليكون فرنسيّا، رغم أنه لبناني بحت. «لا مدرستي ولا أصحابي ولا أهلي بيحكوا عربي.. فهيدا الشي ما بشجّعني إحكي هيدي اللغة». وتضيف ممازحة: «لما بكون مع سيّاح أجانب بكون فخورة إني بعرف عربي منيح بس لما كون مع لبنانيي بصير ما بعرف ولا كلمة تجاههم».
ليلى مثلا، تتحـدث باللغـة التي تناسـب «الجوّ»: «يعني أنا بحب احكي عـربي بس المجتـمع بيفـرض عليّ غـير شي». تستمـع ليلى لفـيروز وأم كلـثوم وتقـرأ بالعـربية أيضا، إلا أنها ما أن تحلّ بين أصـحابها حتى تصـبح «مجـبورة تحـكي انكـليزي». وعلـى العــكس من ليلى، يفضّل ايليا الانكلـيزية على العربية، لكن الأخـيرة هــي المعتمدة في حديثه بشكل رئيسي. ومع ذلك، يلجـأ إلى الأجـنبية في سياق الحديث أحيانا، لكي يعبر عن كلمات تغيب عن ذهنه بالكامل بلغته الأم.

فينيقي وعربي

يفضّل إيليا اللغة الانكليزية لأنها باعتقاده ضرورية أكثر. لكنه أيضا، ينظر إلى نفسه على أنه سيكون شخصا أفضل إن كان يتقن لغة أجنبية. يقول إن مشكلته مع العربية ليست مشكلة هوية: «أنا فخور بلغتي وبهويتي اللبنانية والعربية وكل شي.. لكن إن حبينا أو ما حبينا الانكليزية هي الكل بالكل». كذلك الأمر بالنسبة لجيف الذي يعتبر أن مسألة اللغة هي مسألة بيئة: «فإذا تربيت في بيئة ما بتحكي عربي فأنا أيضا لن أستخدمها!».
يختلف الأمر بالنسبة لصوفي التي تعتبر اللغة مسألة هوية وانتماء بامتياز. ترى صوفي أن التداول باللغة الأجنبــية هو معيار ثقافة وتحضّر، فاللغة هي انعكاس للمجتمع، وبرأي صوفي المجتمع العربي لا يزال بعيدا عن الحضارة الغربية وخاصة الأوروبية التي تشبهها أكثر. وتتابع شارحة موقفها: «العالم العربي يكاد يكون للمسلمين فقط، أما المسيحيون فهم أكثر انفتاحا على العالم. على كلّ، أنا قبل أن أكون عربية، أنا فينيقية!».

أجمل اللغات.. مهددّة

في محاولة لتسليط الضوء على "أزمة العربية"، قام "شباب السفير" برصد بعض من مظاهر هذه الإشكالية، وشرح أسبابها وخلفياتها مع الباحث ميشال عبس، أستاذ علم اجتماع في جامعة القديس يوسف.
يبدأ عبس معالجته لموضوع تراجع اللغة العربية في أوساط الشباب باعتبار أن المشكلة تعود بشكل رئيسي إلى شعور بعض العرب بالدونية تجاه الغرب. الأمور تؤخذ على محمل الجدّ أكثر عندما تكون مصبوغة باللون الغربي ومحكيّة بلغة الأجنبية، وبالتالي فهي توحي – مجرد إيحاء – باحتراف أكبر.
ولا ينكر عبس أن تعددّ اللغات هو غنى قبل كل شيء. ففي لبنان مثلا، نتلقّى معظم العلوم باللغة الأجنبية. وبدل أن تغني اللغات الأجنبية اللغة العربية تقوم بإلغائها بشكل شبه كامل.
وحول تأثير وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي على هذا التراجع، يعتبر عبس أن الانترنت ساعد على "القضاء" على اللغة العربية لا سيما عبر استيراد أكثر من ثقافة أجنبية معلبّة لا يقوم اللبناني باختيار ما يناسبه منها، وبرفض ما لا يشبهه أو يعبر عنه. برأيه، ما نشهده من تراجع هو أزمة هوية تتعرض للانحلال، وذلك عبر ارتباطها بالغرب والخضوع له. "بعضنا يجهل أن الغرب أمضى سنوات طويلة يترجم العلوم عن الحضارة العربية لكي يبني حضارته الخاصة".
أما القول بأن المسيحيين مستعدين للانفتاح على الغرب أكثر، فينسبه عبس إلى مراحل تاريخية دفعت بهذا الاعتقاد، لكنه يعيده بشكل رئيسي أيضا إلى جهل البعض الذين لا يعرفون أن تاريخ العرب هو مسيحي وإسلامي في الوقت عينه.
وينهي عبس بالتأكيد على أن المجتمع اللبناني مجتمع يعاني من استقالة تامة وتنازل سهل وسريع عن هويته التي تشكل اللغة العربية جزءا لا يتجزأ منها، قبل أن يختم برأي حاسم: "اللغة العربية من أجمل اللغات على الإطلاق!".  

السابق
مليون دولار مقابل رحلة إلى الفضاء
التالي
مكاري: الإعتداء على المطرانية رسالة الى عودة على خلفية مواقفه