ملابسات ظهور الكيانية الفلسطينية قبل 1948

اعلى الرغم من أن اسم فلسطين موجود منذ ما قبل التاريخ ـ ورد اسمها في التوراة وفي نصوص فرعونية قديمة ـ إلا أن فلسطين ككيان سياسي وبحدودها الجغرافية المعروفة اليوم هي نتاج لاتفاقات وتداعيات الحرب العالمية الأولى، ويمكن القول إن الكيانية السياسية الفلسطينية الحديثة بدأت بالتبلور في الربع الأول من القرن العشرين، ليس رغبة من الفلسطينيين بهذه الكيانية بل لأنها فُرضت فرضا عليهم نتيجة خمسة أحداث:
1ـ ظهور المطامع الصهيونية في فلسطين وما تبع ذلك من هجرات يهودية إلى فلسطين من دون غيرها من البلاد العربية.
2ـ اتفاقية سايكس ـ بيكو سمة 1916.
3ـ وعد بلفور سنة 1917.
4ـ معاهدة سان ريمو سنة 1920.
5ـ ظهور توجهات قُطرية عربية ـ سوريا ولبنان والأردن والعراق ـ فصلت نفسها عن المتحد الكلي، أكان ذلك المتحد هو سوريا الكبرى أم الدولة العربية.
شكل الخطر اليهودي على فلسطين بداية تلمس الفلسطينيين كينونتهم السياسية، حيث استهدفت الهجرات اليهودية الفلسطينيين من دون غيرهم، خصوصا أن هذه الهجرات بدأت بعد المؤتمر الصهيوني الأول في بال بسويسرا سنة 1897، الذي حدد هدفا واضحا للصهيونية العالمية وهو إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. وقد عبر الفلسطينيون أول مرة عن تخوفاتهم على كينونتهم كفلسطينيين برسائل وجّهوها إلى المؤتمر العربي الذي عقد في باريس في حزيران 1913، وتصدت جريدة «الكرمل» للموضوع متسائلة: «يا طلاب الإصلاح في بيروت ومصر، كيف تطلبون للبيت سقفا وتغفلون عن وضع أساسه، تطلبون الإصلاح لبلاد يسعى لتملكها الصهيونيون وتشاهدون هذا ولا تعارضون كأنكم لا صلة بينكم وبين إخوانكم في العروبة والعثمانية والوطنية في فلسطين، وكأنكم لا تعلمون أن ضياع فلسطين يقضي على آمالكم وحياتكم الاقتصادية».

الكيانية والقومية
على الرغم من استياء الفلسطينيين من تجاهل الحركة القومية الوليدة للمعاناة الفلسطينية وتسبيق الحركة للهموم العربية، إلا أن الفلسطينيين بقوا مخلصين لانتمائهم القومي، حيث ربطوا ما بين الأطماع الصهيونية في أرض فلسطين والاستراتيجية الصهيونية الاستعمارية في المنطقة العربية الهادفة إلى تجزئة المنطقة تمهيداً للسيطرة عليها. وعبر الفلسطينيون عن انتمائهم القومي من خلال مشاركتهم بثورة الشريف حسين ضد الإمبراطورية العثمانية، وشكلوا دعامة أساسية من دعائمها، وتبوأ البعض منهم مراكز قيادية فيها. ونظراً إلى تداخل العامل القومي بالخصوصية الفلسطينية، فقد اعتبر الفلسطينيون أن انتصار الحركة القومية العربية لا يعني تحرر الأقطار العربية من الحكم التركي وإقامة حكومة عربية مستقلة فحسب، بل انتصار الحركة القومية العربية القادرة على مواجهة الخطر الصهيوني وإنقاذ شعب فلسطين منه.
في الوقت الذي كانت فيه الحركة العربية الناشئة منشغلة بمصير البلاد العربية بعد الحرب، مراهنة على تنفيذ الانكليز تعهداتهم للشريف حسين، تم الكشف عن وثيقتين خطيرتين لعبتا دورا في رسم الخريطة الجيوسياسية للمنطقة وما زالت تداعياتهما متواصلة حتى اليوم. الأولى هي اتفاقية سايكس ـ بيكو 1916، والثانية إعلان بلفور 1917، حيث وعد من لا يملك بمنح فلسطين لمن لا يستحق، أي للصهيونيين.

الوطنية الجديدة: سورية أم عربية؟
دفع غموض موقف الحركة القومية الناشئة من فلسطين وبداية تفككها إلى تيارات قطرية الفلسطينيين إلى البحث عن ذاتهم وبلورة حالة سياسية وطنية يمكن من خلالها مواجهة الخطر المزدوج ـ الهجرات الصهيونية والانتداب البريطاني ـ وقد وصف ساطع الحصري الحالة العربية آنذاك في كتاب (يوم ميسلون) قائلا: فهذا فلسطيني يعتبر الصهيونية أول ما يجب أن يهتم به من مشاكل، وذلك سوري يرى في أطماع فرنسا أكبر الأخطار التي تهدد القضية العربية، وذلك عراقي يقول بوجوب الثورة ضد الإنكليز قبل كل شيء.
وهكذا ابتداء من عام 1918 بدأت تظهر إرهاصات وطنية فلسطينية تم التعبير عنها من خلال تأليف جمعيات إسلامية ـ مسيحية في مدن فلسطين وقراها، أخذت على عاتقها قيادة العمل السياسي في البلاد، وتوجيه الجماهير إلى أنجح الطرق والوسائل الكفيلة بمواجهة المشكلات التي تواجهها البلاد. وكان انعقاد المؤتمر الفلسطيني الأول لهذه الجمعيات بين السابع والعشرين من كانون الثاني/ يناير والعاشر من شباط / فبراير 1919فرصة لظهور التباينات في المواقف، ما بين توجهات وطنية فلسطينية وتوجهات قومية عربية وتوجهات قومية سورية، فيذكر خليل السكاكيني، أحد الأقطاب الوطنيين آنذاك، أنه وقف مع وجود تيار إقليمي يدعو إلى أن تكون فلسطين للفلسطينيين «إلا أن التيار الغالب كان تيار الوحدة العربية… وأن فلسطين ليست للفلسطينيين بل هي للجامعة العربية».
ولأن المؤتمر تزامن مع وجود حكومة عربية في سوريا بقيادة الأمير فيصل، فقد عبر الفلسطينيون، بالإضافة إلى انتمائهم القومي العربي، عن انتمائهم لسوريا الطبيعية، حيث نصت المادة الأولى من قرارات المؤتمر على: «اننا نعتبر فلسطين جزءاً من سوريا العربية، إذ لم يحدث أن انفصلت عنها في أي وقت من الأوقات، ونحن مرتبطون بها بروابط قومية ودينية ولغوية وطبيعية واقتصادية وجغرافية». أما المادة الثالثة، فنصت على ما يلي: «بناء على ما تقدم، إننا نعرب عن رغبتنا بأن لا تنفصل سوريا الجنوبية (فلسطين) عن حكومة سوريا المستقلة، وأن تكون متحررة من جميع أنواع النفوذ والحماية الأجنبية». وفي نهاية المؤتمر، قرر المؤتمرون إرسال وفد إلى الشام للاجتماع إلى قادة البلاد القوميين، وللتعبير عن عواطف أهل (سوريا الجنوبية) في بقائهم وإياهم كتلة عربية مستقلة، إلا أن الإنكليز منعوا الوفد من السفر إلى دمشق.
كان أمل الانضمام وتأكيد الانتماء لسوريا الطبيعية قد راود أحلام الفلسطينيين، باعتباره المخرج الوحيد أمامهم من المأزق الذي كانوا يواجهونه، ولم يتركوا مناسبة إلا عبروا فيها عن طموحاتهم هذه. ففي اجتماع لقادة الحركة الوطنية الفلسطينية يوم الثاني عشر من نيسان / إبريل 1919 حددوا المطالب الواجب تقديمها للجنة «كنج كرين»، والتي تركزت على اعتبار «سوريا» التي تمتد من جبال طوروس شمالاً إلى ترعة السويس جنوباً مستقلة استقلالاً تاماً ضمن الوحدة العربية وأن فلسطين جزء لا يتجزأ منها.

الوطنية الحديثة
منذ منتصف عام 1920 شهدت فلسطين والقضية العربية عموماً أحداثاً مهمة شكلت بالنسبة لتطور الكيانية الوطنية الفلسطينية منعطفاً ذا دلالة، وكان أهمها:
1) إعلان بريطانيا وفرنسا كدولتين منتدبتين على الأقاليم التي تحتلانهما، حيث أعلن مجلس السلام الأعلى في نيسان / ابريل 1920 هذا القرار من دون الرجوع إلى رغبات الشعوب.
2) سقوط الحكم الفيصلي في دمشق بعد معركة ميسلون في 24 تموز / يوليو 1920.
بسقوط الحكومة العربية في دمشق، فقد الفلسطينيون آخر أوراق الرهان على الحركة القومية العربية، وعلى الانتماء إلى سوريا الكبرى، فبدأت تتعزز التوجهات الوطنية التي تقول بالاعتماد على الذات بعيداً عن الهموم العربية. وشكل المؤتمر الفلسطيني الثالث في كانون الأول / ديسمبر 1920 منعطفا لا يقبل اللبس نحو الكيانية أو القطرية السياسية، حيث دعا المؤتمر إلى تأليف حكومة وطنية، وكان هذا المطلب الأول من نوعه في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية. وفي الثامن عشر من كانون الأول / ديسمبر 1920 رفع رئيس المؤتمر موسى كاظم الحسيني تقريراً إلى المندوب السامي البريطاني في فلسطين ـ هربرت صموئيل ـ طلب فيه «… تشكيل حكومة وطنية مسؤولة أمام مجلس نيابي ينتخب أعضاؤه من الشعب المتكلم باللغة العربية القاطن في فلسطين حتى أول الحرب».
ابتداء من عام 1929 شهدت فلسطين أحداثاً عنيفة أخطرها هبة البراق، تميزت بتحرك الجماهير الفلسطينية وأخذها زمام المبادرة للتعبير عن السخط والغضب على التعديات الصهيونية على مقدسات المسلمين، ورفضها سياسة المهادنة التي اتبعتها قيادة الحركة الوطنية تجاه السلطات الانتدابية في فلسطين. وقد أثار الانحياز البريطاني المكشوف إلى الحركة الصهيونية موجة من العنف والاضطرابات عمت البلاد، واقترنت هذه الحالة بموجة من المشاعر الوحدوية التي عمت فلسطين كلها. ويبدو أن قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية الممثلة بـ«اللجنة التنفيذية» شعرت بتيار الوحدة العربية الجارف، وبوصول سياستها إلى الطريق المسدود، فلجأت إلى محاولة ركوب هذه الموجة وإشراك العرب بالهموم الفلسطينية وتحميلهم جزءاً من مسؤولية ما يحدث على أرض فلسطين، فوجهت في 21شباط/ فبراير 1931 بياناً إلى الأمة العربية، دعت فيه العرب إلى «الاقتصاص لإخوانكم الفلسطينيين»، و«معاملة اليهود في البلاد العربية بمثل ما يعامل اليهود العرب في فلسطين»، وأن يعملوا بلا انقطاع للمحافظة على عروبة البلاد المقدسة واستقلالها. وفي الوقت نفسه دعت لعقد مؤتمر إسلامي في القدس في محاولة منها لاستثارة المشاعر الإسلامية في العالم ضد السياسة الصهيونية البريطانية في فلسطين.

ستغل القوميون انعقاد المؤتمر الإسلامي سنة 1933 الذي حضرته العشرات من الشخصيات القومية العربية، فدعوا إلى عقد مؤتمر قومي عربي على هامش المؤتمر الإسلامي. وبالفعل عقد المؤتمر في بيت عوني عبد الهادي، وحضره خمسون شخصية عربية، حيث أصدر المؤتمرون بياناً في الثالث عشر من كانون الأول / ديسمبر عبروا فيه عن أهداف المؤتمرين وتطلعاتهم القومية، وأشادوا بالجهود التي بذلت لتحقيق كيان عربي مستقل يشمل الأقطار العربية المختلفة، ويوصل الأمة العربية إلى الاستقلال الذي تتمتع به أمم العالم الحرة، وهاجموا السياسة الاستعمارية «الهادفة إلى تجزئة الأمة العربية بهدف إشغال أهل كل قطر من الأقطار العربية عن إخوانهم في الأقطار الأخرى بقضايا إقليمية مصطنعة وأوضاع محلية متقلبة». إلا أن محاولات استعادة البعدين القومي والإسلامي لم تغير الواقع الفلسطيني والعربي الذي بات ينحو نحو تكريس كيانات قطرية كل منها منشغل بقضاياه الداخلية. حتى ان ثورة 1936 الفلسطينية لم تغير شيئا على مستوى الواقع القطري، على الرغم من مشاركة متطوعين عرب في أحداث الثورة، فمن العراق جاء فوزي القاوقجي (سوري الجنسية ولبناني الأصل) على رأس قوة قوامها 500 مناضل وتسلم قيادة الثورة في البلاد، ومن سوريا وصلت قوتان، إحداهما بقيادة سعيد العاص، والأخرى بقيادة محمد الأشمر، وكان لهذه القوات تأثير في رفع معنويات شعب فلسطين وإشعاره بأنه ليس وحده في ميدان المعركة.
استمر النضال الوطني الفلسطيني متقطعاً ومرتبكا حتى إعلان بريطانيا نيتــها وضع حد للانتداب على فلسطين، وكان قرار التقسيم الرقم 181 عام 1947 الذي رفضه العرب والفلسطينيون، ثم حرب 1948 التي أضاعت ثلثي فلسطين وكانت سبباً في تهجير أعداد كبيرة من الفلسطينيين. وما بعد النكبة تم إحياء الكيانية السياسية، ولكن في ظل أوضاع أكثر صعوبة أهمها قيام دولة إسرائيل وواقع الشتات الفلسطيني.

السابق
حصول دمشق على معدات امريكية لمراقبة الإنترنت؟!
التالي
حمادة: لن نقاطع جلسة الغد لأنها جلسة مواجهة نظامية لا سياسية