في ذكرى غيابه السابعة:ابوعمار رمز الوطنية الفلسطينية

في الذكرى السابعة لغياب الرئيس ياسر عرفات، تبدو الحركة الوطنية الفلسطينية اليوم أمام استحقاقات كبرى، نعتقد أنها تحتاج لإنجازها الوقوف طويلا وبعمق أمام تجربة المرحلة السابقة، خصوصا تلك التي قادها الراحل وكان عنوانها الأبرز والأهم، هو الذي صنع سياساتها، وأشرف على برامجها طيلة عقود أربعة وتزيد.
ياسر عرفات هو أيضا عنوان الوطنية الفلسطينية، المستقلة، والطالعة من صفوف الفلسطينيين المشردين في شتاتهم وفي وطنهم، والذين وجدوا أنفسهم بعد النكبة الكبرى عام 1948 أمام حالة شاذّة وبالغة القسوة : تمزُق أرض الوطن، وضياع الشعب وتشرُده، وما استتبع ذلك من غياب الحركة الوطنية الواحدة والمتماسكة، ما شكّل غيابا للإرادة الوطنية، والمؤسسة السياسية التي يمكنها أن تمثل الشعب وأن تتحدث باسمه، بل من يمكنها أن تقود حركة مضادة لإرادة التهويد الصهيونية.
قبل أن تنطلق حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح”، بقيادة الراحل أبو عمار، توزّع الفلسطينيون بين الولاء لأنظمة عربية رأوا فيها وفي شعاراتها خلاصهم وأملهم في تحرير وطنهم، وبين أحزاب عربية مختلفة الأفكار والأيديولوجيات، كانت بدورها تعدهم بتحقيق الهدف ذاته، وهي انتماءات تاهت معها وخلالها الشخصية الوطنية الفلسطينية المستقلة، فتضاءلت الأهداف، ولم تعد حاضرة إلا باعتبارها شعارات عربية عامّة، لا تمتلك خصوصيتها الفلسطينية، أي أنها افتقدت تعبيريتها عن طموحات وأهداف شعب محدد، هو الضحية الأولى والمباشرة للمشروع الصهيوني، على ما يشكله ذلك من ضمور لأي إنجازات ممكنة، وتحويل القضية ـ في أغلب الأحيان ـ الى مجرّد قضية إنسانية للاجئين تتكفل بهم “وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين” (الأونروا)، وأي مؤسسات إنسانية وخيرية أخرى، وينحصر فعلها في تقديم الخدمات والمعونات الإنسانية وبحدودها الدنيا التي تحفظ لهم البقاء على قيد الحياة.
لم يعش شعب في عصرنا الحديث رحلة البحث عن حركته الوطنية بالصعوبة التي عاشها الشعب الفلسطيني، فالمعروف والعادي أن تواجه الحركات الوطنية صعوبات في تحقيق أهدافها لأسباب عديدة، غير أن الأمر في الحالة الفلسطينية جسّد حالة غير مسبوقة من العسر وانسداد الأفق: هنا تحضر إلى البال حالة التمزُق السكاني التي حوّلت الشعب الفلسطيني الى مجموعات لا تحصى من الجزر المتباعدة، بل التي لا تمتلك أية وسائل اتصال بينها، ناهيك بالطبع عن الحالة الإجتماعية والإقتصادية المزرية، التي سادت الأوساط الفلسطينية بعد النكبة، والتي جعلت البقاء على قيد الحياة هدفا كبيرا يسبق هدف تحرير الوطن0 ذلك هو معنى الإستعمار الإستيطاني الذي قامت به الحركة الصهيونية، والذي تفوق على أية تجربة استيطانية أخرى في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، أو حتى البلدان التي خضعت لأنظمة الأبارتهيد في جنوب إفريقيا وزمبابوي وناميبيا، حين أضافت الصهيونية الإسرائيلية للإستيطان مشاريع الإستئصال للفلسطينيين، وطردهم من مدنهم وقراهم والإستيلاء على ممتلكاتهم لمصلحة المستوطنين القادمين من شتى بلاد العالم0 هي حركة الوطنية كان عليها أن تستثير بشرا هائمين على وجوههم، يستبد بهم اليأس، وتحيط بحياتهم قسوة قوانين البلدان التي عاشوا فيها كلاجئين.
نقرأ اليوم تجربة حركة فتح بما لها وما عليها، ونحن ندرك حجم المصاعب التي رافقت تلك التجربة الصعبة، وما أحاطتها بها الأنظمة العربية من حملات منظمة للتشويه وقلب الحقائق، في محاولة لإبقاء الفلسطينيين تحت خيمة هذا النظام أو ذاك.
وبهذا المعنى قلنا في مطلع هذه المقالة أن فتح وقائدها ياسر عرفات جسّدا الوطنية الفلسطينية، بما هي تجاوز حقيقي وجدّي لتجربتين سبقتاها زمنيا كانت الأولى “حكومة عموم فلسطين” بعد النكبة مباشرة، ثم ” منظمة التحرير الفلسطينية ” التي وإن جاءت متقدمة عن سابقتها إلا أنها ظلت هي الأخرى نتاجا رسميا عربيا أقدمت عليه الأنظمة الرسمية العربية للإلتفاف على تطلعات الفلسطينيين كشعب في امتلاك زمام مصيره بيده وتأسيس حركته الوطنية الخاصة والمستقلة.
مسيرة العمل الوطني الطويلة والمريرة كانت، والحال هذه، مسيرة لتأكيد حق الفلسطينيين كشعب في التعبير عن تطلعاتهم وأهدافهم الوطنية، وهي مسيرة عانت آلام التأسيس الأولى بقدر أكبر مما عانته خلال الكفاح الفعلي ضد الإستعمار الإستيطاني، وذلك مفهوم ومتوقع بالنظر الى حقيقة أن انتصار الأهداف الوطنية في فلسطين يتلازم بالضرورة مع إحداث تغييرات حقيقية في الأوضاع العربية التي كانت سائدة عربيا، والتي سمحت للحركة الصهيونية بتمرير مشروعها على حساب الشعب الفلسطيني ووطنه ووحدته ووجوده على أرض بلاده0ومن هنا أيضا برز بالذات دور الرئيس الراحل أبو عمار، والذي جسد لعقود طويلة الشخصية القيادية القادرة على استقطاب تأييد الفلسطينيين خصوصا بعد معركة الكرامة في الحادي والعشرين من آذار / مارس 1968، التي فتحت الباب واسعا لالتحاق عشرات آلاف الشباب بحركة فتح وفصائل المقاومة الأخرى، ثم بعد ذلك مع افتتاح مرحلة جديدة تماما في الحياة السياسية الفلسطينية مع وصول حركة فتح ورئيسها أبو عمار الى موقع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وبداية إعادة تشكيلها وتخليصها من آثار التأسيس الأولى التي جعلتها أقرب لجامعة عربية مصغرة، تعكس عيوب الجامعة الأم وتناقضاتها وعوامل ضعفها.
ياسر عرفات كقائد سياسي ومناضل ثوري له ما له وعليه ما عليه بالتأكيد، ولكنه وهو من قبض على موقع القيادة الأول في المنظمة والثورة، ثم في السلطة الوطنية الفلسطينية بعد ذلك يظلُ مثار جدل لا يتوقف في صفوف الفلسطينيين كأفراد، كما بين الفصائل والأحزاب. مع ذلك أعتقد أن أهم ساحات ذلك الجدل هي التي تدور بالتحديد في صفوف منتسبي حركة فتح ومناصريها. هؤلاء يستعيدون اليوم ذكرى غياب القائد المؤسس ياسر عرفات وحركتهم تعيش ظروفا غير عادية، وتعاني من أشكال متعددة من الترهل وغياب المرجعية الواحدة، ما ينعكس سلبا على أدائها الكفاحي في مرحلة بالغة التعقيد وتحتاج الى نهوض أعلى تفتقر له اليوم.
في ذكرى رحيل القائد ياسر عرفات، يستعيد الفلسطينيون صورته في أوساطهم من عمان الى بيروت الى رام الله وغزة، وهم يفعلون ذلك برؤى مغايرة، وطموحات مختلفة، خصوصا وقد تعاظم دور الأجيال الفلسطينية الشابة، التي كانت لها اليد الطولى نهايات العام 1987 في إشعال الانتفاضة الكبرى بجهود “الشبيبة الفتحاوية”، ثم كان لها مؤخرا صحوتها الكبرى خلال فعاليات حملة إنهاء الإنقسام واستعادة الوحدة الوطنية، والتي كان لشبيبة فتح دورها البارز فيها مع شبيبة الفصائل الأخرى، وأيضا مع المستقلين من ناشطي الفيسبوك والإنترنت الفلسطينيين الذين تضافرت جهودهم الموحدة في إطلاق الدعوة وتحقيق فعالياتها على أرض الواقع في الضفة الغربية وقطاع غزة وبلدان الشتات.
عاش ياسر عرفات لفلسطين ومن أجلها، فكان قائداً سياسياً وجماهيرياً ذا شخصية كاريزمية فريدة منحته القدرة على ممارسة التكتيك السياسي ببراعة مشهودة، هو الذي اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة لأجله قراراً فريداً بنقل اجتماعاتها من مقرها المعروف والثابت في نيويورك إلى سويسرا حين رفضت الحكومة الأميركية السماح له بدخول أراضيها بالرغم من أن زيارته كانت لمقر الأمم المتحدة وليس للأراضي الأميركية.
أبو عمار مالئ الدنيا وشاغل زمانه السياسي كان قائداً وطنياً عاش حلم التحرير والعودة، حقق نجاحات وانتصارات، وواجه خيبات وانكسارات، ولكنه في الأحوال كلها ظلّ رمزا وطنيا فلسطينيا كبيراً، يجسّد وحدة الفلسطينيين حتى في لحظات اختلافهم معه.

السابق
مشكلات الهيمنة والشرعية في الحركة السياسية الفلسطينية
التالي
كتّاب مشهورون.. كتّاب مجهولون، “لوليتا” نابوكوف مثالاً