كلام حول بكركي: ماذا يريد المسيحيّون؟

بين حِل البطريرك الراعي وترحاله، بدأت تتكون حول الصرح مجموعة من دوائر الإنتلجنسيا المارونية البكركوية، إذا ما صحّت النسبة. نوع من «حلقات تفكير»، ترافق سيد الصرح، حاضرة في هيكلية بكركي المنشأة للمرة الأولى في تاريخها، مشارِكة في لجانها، ومرافِقة لصاحب الغبطة، وإن كانت لا تحمل طبعاً أي صفة بطريركية رسمية.

في هذه الحلقات يدور القسم الأكبر ممّا يجول في أجواء الصرح من قراءات ومقاربات لأحوال الوطن، بين حال منطقتنا في الإطار الأكبر منه، وأحوال الطائفة في النطاق الأضيق. أولى تلك الأفكار أنها وسط العاصفة الإقليمية الهابّة، لا لزوم إطلاقاً لسياسات من نوع الاصطفاف في هذا المعسكر أو في ضده. لا الشرق مطمئن، ولا الغرب حام أو حاضن. الرهان الوحيد الممكن والضروري هو على الذات، وتحديداً على الإطار اللبناني في حدوده الكيانية لا غير. ومن هذا المنطلق تسارع تلك الدوائر الى التأكيد أن المطلوب مسيحياً اليوم، لا مناصرة نظام قائم، ولا تأييد «ربيع آت». فالواقع الفعلي بعيد عن تلك التبسيطات. أصلاً الكلام اليوم في المنطقة على «ربيع الشعوب» هو مجرد تمنّ أو مبالغة أو حتى تضليل. كل ما نعيشه الآن هو «خريف الأنظمة» في منطقتنا. وبين خريف الأنظمة وربيع الشعوب، ثمة شتاء فاصل. ويبدو أنه سيكون شتاءً قاسياً وطويلاً، قياساً إلى حمراوية الخريف الراهن. بعد الشتاء، قد لا يكون الربيع ذاتياً، وقد يركَّبه آخرون لمنطقتنا وأنظمتها المقبلة وشعوبها المتقبّلة لكل شيء … 
في ظل هذه الأجواء، أفضل ما يمكن انتهاجه هو العودة إلى لبنان، تقول الدوائر المحيطة بالصرح. ومدخل العودة التمسك بوثيقة الوفاق الوطني، كما هي التسمية الأصلية لاتفاق الطائف. يظهر في تلك الحلقات نوع من إعادة الاعتبار إلى الاتفاق الذي عانى طويلاً من الانقلابات أو الاتهامات. يؤكد «الصرحيّون» أن ما كان ثغرة في «الطائف» لجهة السيادة انتهى مع جلاء الجيش السوري. ما تبقى كله إيجابيات. فلا يتحدثن أحد عن صلاحيات رئاسة الجمهورية. ليست مشكلة إطلاقاً في التوازن النظامي داخل السلطة التعددية الميثاقية. فلنتصارح في هذا المجال، ولو أزعجنا أو أحرجنا: يريد المسيحيون، وأوّلهم الموارنة، ضمانات؟ من قال إن ضمانتهم صلاحيات الرئاسة؟ أصلاً متى حمتهم؟ أو متى استطاعوا ممارستها؟ ألم تكن سبب الثورات عليهم طيلة عمر لبنان المعاصر؟ الضمانات الميثاقية الحقيقية هي في مكان آخر، لا بل هي في أمكنة لم يمسّها الطائف، لا بل حفظها وكرسّها، إن عرف المسيحيون ممارستها.

فبعد تكريس المناصفة الدستورية في السلطتين التشريعية والتنفيذية، صارت الضمانة الميثاقية الأولى على مستوى «مؤسسة الدولة» في الإدارة العامة، الثابتة مناصفتها هي أيضاً على مستوى رأس الهرم وموظفي الفئة الأولى. وهنا ماذا يريد المسيحيون؟ فلنكشف كل الأوراق: الطائف حفظ لهم السلطة العسكرية والأمنية شبه كاملة. فبين قيادة الجيش ومديرية المخابرات والمديرية العامة للأمن العام (التي أسقطها لاحقاً ماروني، ولم يسقطها الطائف) وأخيراً قيادة الدرك ضمن قوى الأمن الداخلي… بين أربعتها، حفظ الطائف للمسيحيين، لا بل للموارنة، كل السلطة العسكرية في البلاد. بعدها السلطة القضائية، ماذا فعل بها الطائف؟ حفظها أيضاً للمسيحيين، لا بل للموارنة أيضاً، بين مجلس القضاء الأعلى، ومجلس شورى الدولة والمجلس الدستوري… ماذا يمكن أن يأخذ المسيحيون، لا بل الموارنة أكثر؟ من بين أربع مؤسسات قضائية، واحدة فقط ليست في يدهم، هي القضاء المالي عبر ديوان المحاسبة. كل الباقي من السلطة القضائية بين أيديهم، كمسيحيين، أو أيضاً وأيضاً كموارنة حصراً… حتى السلطة المالية، تلك التي دأب المسيحيون على التشكّي منها طيلة عقدين، هي أيضاً حفظها الطائف لهم، كمسيحيين، وبالأكثر أيضاً وأيضاً كموارنة. فبين حاكمية مصرف لبنان والمديرية العامة لوزارة المالية، تتجمع النسبة الكبرى من السلطة المالية في الدولة اللبنانية…

يخرج طبعاً من يرد على هذا الكلام بإشارات إلى أن أداء شاغلي هذه المواقع لم يخدم المقتضيات الميثاقية، أو أن مرجعيات بعضهم سياسياً تخرجهم من طوائفهم، أو غير ذلك من حجج وذرائع… كلها مسائل لا علاقة لاتفاق الطائف بها، تجيب الدوائر نفسها. الطائف وضع الأسس الميثاقية وكرّس الضمانات. كان انقلاب عليه زمن الوصاية؟ هذا زمن جديد اليوم، فماذا يفعل قادته وساسته فيه؟

لا تكفي الإدارة العامة طبعاً لضمان الاستقرار الميثاقي في البلد. ثمة نواح أساسية أخرى؛ منها الديموغرافيا، ومنها الجغرافيا، ومنها قانون الانتخاب، ومنها اللامركزية…ولدى الدوائر البكركوية قراءات لها كلها ودراسات شاملة. وبعضها لا يخلو ممّا يتعدى الجرأة ويتخطّى الصراحة… 

السابق
لقاء بري
التالي
الحريري في بيروت قريبا واستعدادات على الأرض