المحكمة… مصيرُها الإلغاء

بعيداً من المرض كحالة إنسانية يجب أن تبقى بمنأى عن أي نقاش سياسي، فإن الأسئلة الخبيثة (كالأمراض الخبيثة) تتفشى وتتواتر في الكواليس والخفايا، لتطرح علامات استفهام عن سبب هذا المرض المتكاثر في المحكمة الدولية، بعدما عانت في مرحلة سابقة من تفشي مرض الاستقالات، الذي بدوره بقيت الأسئلة حوله من دون إجابات.
إضافة إلى ذلك، هناك أيضاً الأمراض القانونية والإجرائية المزمنة التي أصيبت بها المحكمة وهي لمّا تزل جنيناً في بطن لجنة تقصي الحقائق ثمّ لجنة التحقيق الدولية التي لم تتورع عن ارتكاب أفعال الزنا مع الشهود الزور ومع مَن فبركهم ورعاهم وموّلهم.

كل هذا جعل المحكمة تعاني منذ الولادة من تشوّهات في الخِلقة والخلق، إلى حد أنها أصبحت مخلوقاً عجيباً لا يقوى على الحركة إلا إذا ضُخت في شرايينه المقويّات السياسية، باعتبار أن هذه المحكمة بالذات لا يمكن أن تبقى على قيد الحياة بعيداً من السياسة والتسييس، لأنها من أساسها وُجدت ككيان سياسي لا يمت بأي صلة إلى كل ما عرفه التاريخ البشري مما يسمّى منظومة الشرائع والقوانين والعدالة.
وقد توقف المتابعون ملياً أمام خبر أوردته إحدى الصحف في عددها الصادر الثلاثاء (1/11/2011)، ربطاً بأحداث سورية، ومفادُه أن سفارة دولة أجنبية سلمت السلطات اللبنانية صوراً جوية عمّا أسمته "الانتهاكات السورية للحدود"، وقالت "إن الصور تظهر أن الانتهاكات حصلت داخل الأراضي اللبنانية غير المتنازع عليها، والتي لا تحتاج إلى أي ترسيم، وتؤكد توغل السّوريين مسافة متقدمة إلى داخل أراض لبنانية مئة في المئة"، وأضافت الصحيفة: "ان هذا الأمر أحرج الحكومة اللبنانية".
عظيم، لنفترض جدلاً أن الخبر الآنف صحيح، وأن السلطات اللبنانية المعنية تسلمت مثل هذه الصور المزعومة، وقد بات لزاماً عليها التحقيق بها واتخاذ المقتضى القانوني بشأنها.
ولكن، ألا يستدعي الأمر سؤالاً (مجرّد سؤال!) تطرحه الصحيفة والقيّمون عليها وحلفاؤهم على السفارة إياها عن الصور التي أخذت للأجواء اللبنانية في 14 شباط 2005، يوم اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وكذلك في الأيام التي حصلت فيها الاغتيالات أو محاولات الاغتيال. 
عدم السؤال هو أمر مستغرب فعلاً، تماماً كما كان مستغرباً تجاهل المحكمة لكل ما قدّم إليها من معطيات وقرائن ثبوتية حول ضلوع العدو "الإسرائيلي" وعملائه في تنفيذ عمليات الاغتيال، الأمر الذي يؤكد المؤكد بأن المحكمة مسيّسة، وأنها أنشئت لخدمة أهداف سياسية لم تكن ولم تعد خافية على أحد.

ورغم انتفاء الحاجة إلى تجريب المجرّب، بل من باب الفضول لا أكثر، فلا بأس من انتظار جواب قاضي الإجراءات التمهيدية في المحكمة دانيال فرانسين على المذكرة التي تقدّم بها المحامي مروان دلال (الذي عمل سابقاً في مكتب المدعي العام للمحكمة الدولية ليوغوسلافيا السابقة) والتي تتضمّن معلومات موثقة وأدلّة ظرفية تتيح الاشتباه برئيس وزراء العدو الأسبق أرييل شارون ومعه الرئيس السابق لجهاز "الموساد" مئير داغان، علماً أن المتحدث باسم المحكمة مارتن يوسف أكد في حديث صحافي له تسلم القاضي فرانسين للمذكرة، من دون أن يحدد موعداً للنظر فيها.

في كل الأحوال، وقياساً إلى التجربة، ليس علينا انتظار المفاجآت من هذه المحكمة، طالما أن "أهم إنجازاتها" تمثل بقرار اتهامي كان معروفاً مضمونه قبل سنوات من صدوره، إلى درجة أنه سمي "قرار دير شبيغل".
الثقة مفقودة كلياً بهذه المحكمة، وهي في كل ممارساتها وأعمالها وإجراءاتها تزيد من انعدام الثقة بها، كما تترسخ القناعة بأن ملفاتها فارغة وليس فيها سوى بضع وريقات سياسية، كان الذين فبركوها يعتقدون أن بإمكانهم استخدامها وتوظيفها عند الحاجة في مصلحتهم السياسية، ولكن يبدو أن المحكمة فقدت أيضاً هذه الوظيفة السياسية، بدليل أن مدّعيها العام دانيال بلمار، يتهرّب حتى من المحاكمة الغيابية، ويلجأ إلى الأساليب الملتوية في الإعلان عن ذلك، من خلال اتخاذ حجة غيابه بداعي المرض لكي تصدر عن مكتبه مذكرات بتواقيع مجهولة.

وعليه، لا يكون المطلوب من الحكومة اللبنانية ألا تموّل المحكمة وحسب، بل المطلوب منها أيضاً الاستناد إلى آراء الكثير من الخبراء القانونيين، واتخاذ القرار الجريء بمراسلة الأمم المتحدة ومطالبتها بإعادة النظر في أصل إنشاء هذه المحكمة، أي في القرار 1757، الذي يمس بالسيادة اللبنانية، لأنه لم يأت متوافقاً مع الدستور المعمول به في لبنان، كونه لم يستند إلى أحكام اتفاقية كان يفترض أن تبرم وفق الأصول بين منظمة الأمم المتحدة وبين لبنان كدولة ذات سيادة، أي أن يوقعها رئيس الجمهورية، وأن يجيزها مجلس الوزراء مجتمعاً، وأن يصادق عليها المجلس النيابي، لا أن يجري تهريبها من قبل حكومة بتراء فاقدة للشرعية.
ولعل المدخل إلى ذلك يكون بما أعلنه رئيس المجلس النيابي نبيه بري عشية الأضحى، حين أكد أنه أبلغ رئيس تلك الحكومة البائدة فؤاد السنيورة بأن مصير قراراتها (ومنها قرار المحكمة) هو الإلغاء.  

السابق
سعد لا يدفع !!
التالي
إضراب مفتوح للمياومين في مرجعيون