مآزق الثورات العربية

من أكثر العوامل خطورة في مسار الثورات العربية الانقسام الديني والمذهبي، إذ من السهل حرف ثورة أو حركة إصلاحية باتجاه التعصب المذهبي، ما يحول الحراك إلى حرب داخلية ضارية لا تقضي على النظام فحسب بل على الدولة بكامل مكوناتها، ذلك أن اثارة النعرات الدينية تلغي تلقائياٌ مفهوم الدولة الواحدة، الثابتة، التي لا تهتز حدودها الجغرافية ولا يتزعزع انتماء مواطنيها مهما أصاب السلطة من تحولات، كما هي الحال في غالبية الدول الأوروبية. ان اللجوء الى التفرقة الدينية والمذهبية في البلدان
العربية يسقط المواطنة عن أعداد كبيرة من السكان كما انه يؤدي الى وأد الدولة وتلاشيها الى دويلات طائفية، وهذا تماماٌ ما فعلته الولايات المتحدة الاميركية في العراق، إذ أن احتلالها لم يؤد الى اسقاط النظام فحسب بل الى تقسيم العراق دويلات اتنية ومذهبية.

وقبل العراق، اختبر هذا النموذج في لبنان عام 1975، ونجح نجاحاً باهراً وادى الى ان يصبح اسم لبنان مرادفاً للشرذمة الطائفية في العالم أجمع تحت شعار "اللبننة" بدلاً من "البلقنة" التي خبا ضوؤها! فالجيل الذي مثل الشباب آنذاك طالب بإصلاحات للطبقات
العمالية وبدولة رعائية: تظاهروا واعتصموا وشطبوا مذهبهم عن هوياتهم، وما لبث أن تحول هؤلاء الشباب المتطلعون إلى التغيير والحداثة إلى وقود حرب أهلية دامت خمسة عشر عاماً تمحورت حول صراع ديني للحصول على امتيازات في السلطة. الشباب الذين قادوا حراكاً مطلبياً لا طائفياً انضم بعضهم إلى ميليشيات طائفية والبعض الآخر هاجر، ومنهم من فاجأه الموت المجاني على الطرقات إما قصفاً أو ذبحاً… لولادته في "الدين الخاطئ"!
إن الغرب لم يخترع الانقسامات الدينية بل استعملها لتفرقة شعب يريد السيطرة عليه. 
ففي الهند أجّج البريطانيون الصراعات على أساس إثني وديني، وفي أميركا اللاتينية نشبت الحروب الأهلية نتيجة التدخل الأميركي بين يمين ويسار لأن الدين لم يكن عامل تفرقة. لا تأبه أميركا كثيراً لمن هو سني ومن هو شيعي بل من يقف معها ومن يحاربها، فشاه إيران كان شيعياً ودعمته لأنه آزر سياستها في المنطقة.
وفي مصر، رغم إسقاط حسني مبارك، نلمس تهديداً لوحدة مصر عبر تقسيمها عمودياً إلى مسلم وقبطي، وفي مواجهة اللحمة بين المواطنين في ساحة التحرير برزت معضلة تعيين محافظ في الريف لأنه قبطي، كما أن هدم كنيسة في أسوان أدى إلى تأجيج العصبية الدينية في 9 أكتوبر 2011.
والتحريف نفسه يحصل في البحرين التي طالب أهلها بإعطائهم حقوقهم المدنية فانتهوا بالسجن والتنكيل والتعذيب فقط لأنهم وُلدوا في "المذهب الغلط"!
يتبع الأميركيون بأمانة نصيحة رئيس وزراء بريطانيا السابق ونستون تشرشل الذي قال: "إذا لم تتمكنوا من الهيمنة على منطقة، بادروا إلى تجزئتها"!

لم يشذ عن هذه القاعدة الفرنسيون في عهد انتدابهم على سورية، وحاولوا ابتداع كانتونات علوية ودرزية وسنية، إلا أنهم فشلوا أمام الرفض الشعبي.
ما فشلت فرنسا في تطبيقه منذ نحو قرن ـ لا تستطيع هي أو أميركا إنجاحه اليوم في وقت ترسّخ الوعي القومي، خاصة أن سورية رفضت الخضوع لـ"إسرائيل" رغم المحاولات الحثيثة لقلب موازين القوى فيها، فالشعب السوري يدرك بغالبيته العظمى أن الهدف ليس تغيير النظام أو إرساء الديمقراطية، بل تدمير الدولة خدمة للصهيونية.
تحاول الولايات المتحدة الأميركية دفع الحراك السلمي إلى اقتتال داخلي مسلح عبر إخفاء التناقض الرئيسي ما بين "سورية المقاومة" و"إسرائيل" وإبراز تناقض ثانوي بدائي قبلي، طائفي، مذهبي، يعيدنا إلى أجواء القرون الوسطى وما قبل نشوء الدول والقوميات.

أليس هذا ما أنجزته أميركا في أفغانستان في الثمانينات من القرن الماضي؟ لجأت إلى أشدّ أنواع الحركات الإسلامية التكفيرية وسلّحتها لتهاجم الوجود السوفياتي الذي كان قد قام بتحديث المجتمع الأفغاني وتحرير المرأة من الكثير من القيود التقليدية، فإذا بالولايات المتحدة الأميركية تعيدهم قروناً إلى الخلف، ثم تصطنع فكرة إرساء الديمقراطية!
حاصرت أميركا الاتحاد السوفياتي عبر حزام إسلامي تكفيري لا يختصر بأفغانستان فحسب بل يمتد إلى السعودية نفسها وبلدان الخليج والأردن، وأيضاً تركيا عبر تنمية التيارات الإسلامية الدينية وعلى رأسها حزب العدالة والتنمية مخافة تحول تركيا نحو الشيوعية. وبالتالي ليس صعبا تصور تقارب الإخوان المسلمين من أميركا وقبولها أن يتبوأوا السلطة لأن هدفها خلق صراع داخلي يرتكز على الدين والمذهب كون أهل هذه المنطقة ما يزالون يحتفظون بانتمائهم الديني القوي.
من هنا تجهد أميركا لإسقاط أنظمة علمانية كالنظام السوري، لأن فصل الدين عن الدولة يمنع الاقتتال الديني كما تشتهي، وسقوط الدولة العلمانية يعني انهيار الجيش القوميّ العقيدة واستبداله بميليشيات دينية متطرفة، وبالتالي شعار "إسقاط النظام" يعني شيئا واحداً للدولة العظمى ألا وهو إنهاء الدولة السورية.  

السابق
عن أم حسن التي بلّغت عن إبنها..المخدّرات قنبلة عنقودية جديدة تبتر العقول في الجنوب
التالي
حفلٌ للأطفال في النبطية بمناسبة عيد الاضحى