بعيداً عن طريق الزفت

«ربما اكتشفنا مغارة، لن نحدد مكانها الآن كي لا يسبقنا إليها أحد. اتصلنا بخبراء، وهم يحاولون التأكد من الأمر». اكتشاف المغارة ليس أكيداً، لكن الأكيد أن رامي وباتريك اكتشفا «كواليس» البلدات والقرى عندما اختارا، منذ سنة ونصف سنة، تكريس يوم الأحد للتنقل من قرية إلى أخرى عبر الوديان والسير في المشاعات والابتعاد عن الطرق المعبّدة والسهلة.

«لا نحب طريق الزفت. هدفنا اكتشاف المناطق والبحث عما هو غير مألوف»، يختصر الشابان الصديقان هوايتهما. كل شيء بدأ «بالغلط» مع باتريك كرم، ابن بلدة قرطبا في جرد جبيل، ورامي روحانا، ابن بلدة عمشيت الساحلية. فوجئا مرة بوجود قرية مهجورة، بقيت فيها أنقاض بيوت حجرية قديمة وآثار كنيسة. علما أن اسمها «حمار كبير». اسمٌ غريب لم يسمعا به أبداً، على الرغم من كونهما من منطقة جبيل. قيل لهما إنها كانت قرية مأهولة قبل مئات السنين، لكن الأتراك هجّروا كل أهلها. اليوم باتت جزءاً من أراضي بلدة بزمار الجبيلية لكن أهالي البلدة ما زالوا يصطلحون على تسميتها «حمار كبير». تسميةٌ لم يتمكنا من معرفة أصلها لكنها وضعتهما أمام فرضية: ماذا لو كان هناك «حمار زغير»؟ وهكذا بدأ المشوار الذي لم ينته إلى اليوم.
«عندما قمنا بجولة وسط ما تبقى من البيوت، شعرنا بمتعة غريبة. تنفسنا بشكل مختلف. المناظر من حولنا جميلة جداً، ووجودنا في مكان لا يعرفه الكثيرون بدا أشبه بالإنجاز»، يقول رامي. ويتابع: «أنا سمعت عن هذا المكان من أهلي. لكن عندما زرته برفقة باتريك، عايناه معاً وتأكدنا من وجود قرية مشابهة لـ«حمار كبير» لكنها في أسفل الوادي ويصعب الوصول إليها. قررنا السير على الأقدام باتجاهها، بما أن قيادة السيارة بدت مستحيلة». يتدخل باتريك مبتسماً: «كانت هذه أول مرة نسير في طريق مجهولة ولا نعلم ماذا تخبئ لنا. مشينا ثلاث ساعات من دون أن نشعر بالوقت، وعندما داهمنا الليل قبل الوصول، اتفقنا على العودة مجدداً».

الشابان قررا كسر رتابة الحياة وخلق مساحة من المتعة والمغامرة والتحدي عوضاً عن التململ و«النق». كثيرون انضموا إليهما بشكل عفوي، لعلها الحاجة إلى الهروب من الملل أو إلى ما يحرر الشباب من قفص المدنية والعمل وسط أربع جدران، أو الحاجة إلى ما يريحهم من الضغط النفسي ويداوي تفكيرهم من القلق والهموم المعيشية.. أو لعله الفضول أو حب الخروج عن المألوف… تتعدد الدوافع، لكن المهم أن الشابين ورفاقهما وجدوا متنفساً يجددون من خلاله نشاطهم الجسدي والذهني. يرى رامي أن «الفضول شكّل المحرّك الأول». يوافقه باتريك الرأي ويلفت إلى أن اكتشاف جغرافية المنطقة حيث يعيش أمر بالغ الأهمية: «رأينا الكثير من الأراضي الزراعية التي لم نكن نعلم بوجودها، وتعرفنا إلى قرى كانت مجهولة بالنسبة لنا وللكثيرين. اكتشفنا طبيعة التربة والصخور وخصوصية الزراعة في كل منطقة… احترمنا الطبيعة أكثر وصرنا مسالمين معها». ويكمل رامي: «الايجابيات لمسناها لاحقاً: جرأةٌ على خوض المجهول، صحةٌ أفضل ومناعةٌ أقوى، تحررٌ من ضغط الحياة اليومية وتجديدٌ للنشاط قبل العودة إلى العمل، والأهم صداقةٌ مع الطبيعة».

عدد المغامرين وصل إلى سبعة في إحــدى المرات، لكنه لم يثــبت. الثابتان الوحيدان هما رامي وباتريك. يتسلحان بخرائط مستخرجة من محرك البحث «غوغل»، ولا يحملان سوى حقيبة ظهر فيها أغراض الإسعافات الأولية، معلبات خفيفة للأكل، ليتر ونصف ليتر من الماء، فرّاعة، بارودة للدفـاع عن النفس، وحبل. غالباً ما ينقطع إرسال الخطوط الخلوية فينقطعان عن العالم. يتبادلان النظرات ويضحـكان طويلاً كلما تذكرا ضرباً من الجنون قاما به. يعذران الأصدقاء الذين يتخلفون عن موعد الرحلة أو الذين لا يعيدون الكرة، لأنهما يعرفان أن ما يقومان به فـيه شيء من الخطورة، وأن محبي المشي في الطبيعة قد يفضلون الالتحاق بمجموعة منظّمة «عاقلة».
لا يعيقهما شيء عن التقدم. في مثل هذه الفترة من السنة الماضية، سارا ثماني ساعات متواصلة تحت المطر، من قرية كفون إلى عبيدات، مروراً بـ«حصن عار وهبيل». وبعدها، اقتحما الوادي الممتد بين حصرايل (قرب مدينة جبيل) وحاقل (بعد عمشيت) على الرغم من أن المزارعين هناك نصحوهما بعدم المخاطرة، بسبب الأفخاخ المنصوبة على طول الطريق للنيل من الحيوانات البرية.

كلما تسلل الضجر إلى حياة الشابين يجددان دعوتهما للأصدقاء لخوض مغامرة جديدة. لا يجدان دائماً من يلبي الدعوة، لكنهما يتابعان المشروع، ودليلهما خرائط «غوغل». يقول باتريك: «لاحظنا على الخرائط أن هناك جبلاً فوق منطقة نهر إبراهيم لم تقضمه الجرّافات بعد ولم يجتحه الباطون! قصدنا تلك المنطقة التي تقع بين بلدة الكفور ونهر إبراهيم، وهناك علمنا من الرعيان المنتشرين فيها أن جزءاً من الأرض ملك للرهبانية المارونية والجزء الآخر هو لمالكين مهاجرين».
اللقاء مع الرعيان يبدو محطة أساسية في كل مشوار تقريباً. فهم عندما يسرحون بقطعانهم في الوديان يكتشفونها جيداً، وتصبح معلوماتهم ونصائحهم للمغامرين ثمينة جداً. يتذكر باتريك كيف أخبره أحد الرعيان عن آثار كنيسة قديمة، من بينها جرن حجري يعتقد أن عمره أكثر من ثلاثمئة سنة، أشعل فيه بعض المتنزهين النار لشي اللحم! وفي مكان آخر، يتذكر استياء الراعي من وجود كميات هائلة من خراطيش الصيد التي تغطي العشب… وتكثر الروايات التي سمعها رامي وباتريك عن إهمال الناس وتشويههم لما تبقى من جمال في هذه الأراضي.

هذه الروايات دفعت الشابين إلى الحرص الشديد على عدم إيذاء الطبيعة بكل عناصرها. «مرة كنا في الوادي بين الفيدار وزبدين – يخبر باتريك – الوادي وعرٌ جداً ومليء بالصخور المتقاربة التي لا تترك بينها سوى ممرات ضيقة جداً. أحد الممرات سدته بركة ماء كبيرة وعميقة فكان علينا أن نتسلق الصخور. ولكن عندما اقتربنا منها سمعنا نباح كلب من داخل تجويفة الصخرة. بدا مستنفراً ومستعداً لإيذائنا ونحن نعلم أن الصعود على الصخرة من فوقه سيُشعره بالخطر ويدفعه إلى مهاجمتنا. وبما أن هدفنا من مشاويرنا هو تخطي العقبات بـ«شطارة»، ومن دون أذية، لم نطلق النار عليه أو نرجمه بالحجارة، وما كان منا إلا أن عدنا أدراجنا بعد نحو أربع ساعات من المشي في الوادي».
رغم قلقهما من بعض الأماكن التي قد تكون مزروعة بالألغام أو بعض المناطق «الأمنية»، حيث يصبح كل «غريب» موضع شك وريبة، ينوي رامي وباتريك التوسع أكثر. المشوار مرّ حتى الآن بقرى جبيل وكسروان، لكن الشابين لا يعيشان في «غيتو»، كل ما في الأمر أنهما انطلقا من المكان الأقرب، وعندما ينتهيان منه سيتحولان إلى مناطق جديدة تشبع نهمهما للتحدي والاكتشاف.. والدعوة مفتوحة. 

السابق
ماروني: الحكومة وجدت لتعطيل عمل المحكمة
التالي
سليمان عرض مع بري سبل إعادة إطلاق الحوار الوطني