وجهة نظرالأكثر عجيبة من جعيتا

كثيرون هم الراغبون في أن يكونوا «غير شِكل» في مجتمعنا، وكثيرون هم الراغبون في وضع هالات فوق رؤوسهم تشبه إلى حدّ بعيد تلك اللافتات التي يحملها مستقبلو الوافدين إلى مطارٍ ما يعلنون فيها أنهم «هنا»، وأكثر بكثيرٍ هم أولئك الذين يراقبون ما يحدث، ويخوضون الركب من دون تحليلٍ منطقيّ، فقط لأن «الموضة» سارية، والقطار «ماشي».
ولعلّ «الفايس بوك» يفعل فعله في نفوس الشباب اللبناني قبل كتّابه، فما إن ينشر مقالٌ في صحيفةٍ ما، ويكون ذلك المقال قد احتوى على هجوم ثقيلٍ على الدولة أو سخر منها، تراهم ينشرونه هنا وهناك في صفحاتهم الفايس بوكية وصفحات أصدقائهم، فتكثر التعليقات، وتكثر التحليلات، و«الموضة» سارية.. والقطار «ماشي».

في الماضي القريب، عام 1999، أطلق منتج أفلام كندي من أصل سويسري يدعى برنارد فيبر مسابقة عجائب الدنيا السبع الجديدة، وذلك من خلال شركة ربحية أنشأها باسم «مؤسسة العالم المفتوح الجديد ـ New Open World Corporation»، وهي شركة تهدف إلى الحصول على الأرباح من خلال إشراك الأفراد من مختلف أنحاء العالم للتصويت على قائمة عجائب سبع جديدة يجب أن تكون قد بنيت من قبل الإنسان قبل نهاية عام 2000، كما يجب أن تكون صامدة إلى وقت انتهاء التصويت.
أجرت الشركة المسابقة للمرة الأولى عام 2000، واختارت 17 موقعاً ليجري التصويت عليها، إلا أن الانتقادات التي وجهت إليها من قبل الجمهور دفعها إلى إضافة ست مواقع أخرى ومنها: الأوبرا في سيدني ـ أستراليا، جسر البوابة الذهبية، ناطحة السحاب إمباير ستيت، في الولايات المتحدة.

في 30 حزيران عام 2002 أنشئت «مؤسسة العجائب السبع الجديدة اللاربحية» لتصبح واجهة للمشروع، وسجّلت الشركة في سويسرا. وبحلول عام 2005 توصلت المؤسسة إلى قائمة تحوي 200 مبنى وصرح شيّدها الإنسان. أطلقت المؤسسة بعدئذ تصويتاً عبر الإنترنت، فتقلص حجم القائمة إلى 77، واشترك في التصويت أكثر من 20 مليون شخص. وثم قُلّصت القائمة لاحقاً من قبل فريق من المعماريين المتميزين إلى 21 مبنى وصرحاً.
وإذ يدّعي فيبر ضمن موقع المؤسسة أنه سيتبرع بنصف أرباح المؤسسة من المسابقة للمساهمة في الحفاظ على العجائب السبع الحديثة التي سيجري التصويت عليها، فإنه يحق لأي شخص أن يصوّت مجاناً مرة واحدة فقط، ولكن لا يحق له التصويت بصورة مجانية لجهة معينة واحدة بل عليه التصويت لسبع جهات مختلفة دفعة واحدة. وإذا أراد التصويت لجهة معينة فقط من دون باقي الجهات، فعليه أن يشتري حق التصويت.

ونتيجة المسابقة الأولى أفضت إلى فوز هرم تشيتشن إيتزا في يوكوتان ـ المكسيك، تمثال المسيح الفادي في ريو دي جانيرو ـ البرازيل، سور الصين العظيم، مدينة ماتشو بيتشو القديمة في بيرو كوزكو ـ البيرو، البتراء في معان ـ الأردن، الكولوسيوم في روما ـ إيطاليا، وتاج محل في الهند. وبعد نجاح هذه المسابقة، ارتأت الشركة إطلاق مسابقة أخرى، لكنها أبعدت هذه المرّة يد الإنسان وفعله المبدع عن العجائب المنوي ترشيحها، فاختارت معالم طبيعية بحت من أجل إطلاق مسابقة «عجائب الدنيا الطبيعية السبع»، واختارت لهذه الغاية مئات المواقع في شتى أنحاء المعمورة، ولم تكن صدفةً أن يقع الاختيار على مغارة جعيتا كواحدة من هذه المعالم، هي التي سطّر فيها إبداع الطبيعة لوحات جمالية يعجز حتى الانسان عن تخيّل فنها وجمالها.
ولم يكن عجيباً على عجيبة لبنان أن تنتقل بتصويت عالمي إلى المرحلة التالية حتى قبل أن تطلق وزارة السياحة حملتها الكبيرة لنصرة «جعيتا» في وجه منافسيها ومنافساتها، وليس عجيباً عليها أن تقفز من بين 400 موقع مرشح إلى منصة الـ28 متنافساً، ما حدا بوزارة السياحة اللبنانية ومعها وزارتا الإعلام والإتصالات وبلدية جعيتا والشركة المستثمرة «ماباس» إلى إطلاق أوسع حملة تصويت للمغارة، كي تفوز في المسابقة، لما لهذا الفوز من منافع على الصعيد الوطني، معنوياً، بحيث يثبت اللبنانيون أنهم بوحدتهم حول هدف وطنيّ يحيلون المستحيل إمكاناً، ومادياً من خلال زيادة الدخل الوطني في القطاع السياحي، وتجدر الإشارة هنا إلى أن نسبة السيّاح الوافدين إلى البتراء قد تضاعف إلى 400 % بعد فوزها في النسخة الأولى من المسابقة.

وما إن انطلقت الحملة، حتى واجهتها حملة «عجيبة» من نوعٍ آخر، تمثّلت بهواة الهالات من الصحافيين والمدوّنين، فقد انهالوا على الحملة وعلى المغارة بوابل من الانتقادات التي لم تكن إلا لمجرد الاعتراض، والتي لا تندرج إلا تحت خانة «أنا أعترض فَرُوْني أنا موجود»، مستعملين أسلحة مفتاحها الكلمة الرنانة التي تستهوي مدمني «الفايس بوك» فسارعوا إلى نشر المقالات والمدونات كما أشرنا في بداية المقال.
وقد ذهب أحد المخضرمين في الصحافة إلى ما أسماه «عقدة العالمية» و«عقدة الأفضل» لدى اللبنانيين، سياسيين ومقامات دينية وأدباء، نابشاً جبران وميخائيل نعيمة من قبريهما، ومستحضراً أسماء لبنانية معاصرة، ومشاكل لبنانية ومعضلات، واضعاً الأسماء والأزمات في كفة ميزان، والتصويت لجعيتا في الكفة الأخرى، كأن لبنان ومن فيه، تاريخياً وحاضراً، قد اختاروا «جعيتا» لتكون عجيبة، فكان على الدولة اللبنانية أن تعلن رسمياً رفضها «الاعتداء السافر» على معالم الوطن الطبيعية من قبل من رشّح جعيتا للمسابقة كرمى لعيون المخضرم في الصحافة.

وإذ «أبدع» هاوٍ بتعداد هموم اللبنانيين من تقنين في المياه والكهرباء، والضمان، و«سوكلين» و«النافعة، وزحمة السير والبنى التحتية، والكسارات، وصولاً إلى الفن الهابط، مقارناً عجيبة جعيتا بها كصنوفٍ من عجائب الدولة، ذهب هاوٍ آخر إلى «عجب ابنه من عدم تصويته لمغارة جعيتا»، فأجابه بـ«وطنية موجوعة» لكن مصطنعة بأنه «لن يصوّت لأحد بعد الآن، لا لمغارة ولا لسياسي»، وزاد في تماديه بالاصطناع بعد أن زاد لابنه: فقط سنصوّت لفلسطين!.
وبعد أن امتلأت صفحات الـ«فايس بوك» والمدونات بتعليقاتٍ من قبل جمهرة المصفقين، المرددين الببغائيين، المتمردين على كل شيء ولا شيء، صابين جام غضبهم المزيف على لبنان وأزماته، متناسين أنهم فقدوا، بإرادتهم الخالصة، وتصميمهم الجلي، فرصة تغيير ما يشكون منه ويستحضرونه في كل استحقاق، يوم فشلوا في إسقاط نظام المحاصصة الطائفية علّة لبنان ومرضه، يوم خسروا معركة الوحدة مقابل التفرقة، والالتقاء مقابل التنافر، والمدنية مقابل التمذهب، يوم فشلوا في تلقف الآلاف من التواقين إلى نظام علماني مدني، فغرقوا في الأقوال، واعتزلوا الأفعال، واحترفوا النيات، وهجروا الوقائع، فظلوا مصفقين ومرددين، ومتمردين على كل شيء وعلى لا شيء.
مغارة جعيتا فازت تلقائياً يوم اختيرت مرشحة لعجائب الدنيا الطبيعية، وفازت يوم تقدمت أكثر، وفازت يوم أصبحت من ضمن 28 مرشحاً نهائياً، وفازت أكثر يوم تلقفت الدولة وأكثرية اللبنانيين، مقيمين ومغتربين هذا الحدث، وحتى لو لم تفز رسمياً في الحادي عشر من الحالي، فقد سجّلت للتاريخ حالةً ولو كره الكارهون والمتمردون.  

السابق
الأيرلندية توزع قرطاسية
التالي
النووي الإيراني والصخب المرافق