تراجع النفوذ الإيراني في العراق

بينما تستعد القوات الأميركية للانسحاب من العراق نهاية العام، تتصاعد مجموعة من الأصوات الصادرة من شخصيات متنفذة ترى أن الطرف المستفيد من الانسحاب الأميركي هو إيران، حيث يرون أن هذه الدولة، التي يحكمها نظام شيعي مذهبي مشغول بمعارضة داخلية آخذة بالتصاعد وعزلة دولية متزايدة، ستبرز كلاعب إقليمي. بيد أن وجهات النظر هذه تتجاهل كيف أسهمت رؤية إيران المثيرة للجدل حول مستقبل العراق وتكتيكاتها المثيرة للشقاق في تحول العراقيين من مختلف الانتماءات الطائفية عن إيران. ربما تكون إيران قد استطاعت أن تفرض نفوذها بالعراق عندما غرق في مستنقع الحرب الأهلية، إلا أن طهران تدفع إلى الهامش يوما بعد يوم، بينما العراق يستعد لاستعادة مؤسساته الوطنية.

بداية، منهج إيران التسلطي لا يجد هوى بين العراقيين الشيعة. كما أن منهج إيران بحكم الولي المطلق يتعارض مع التقاليد السياسية الشيعية، الأمر الذي يجعل تصدير هذا النموذج أمرا معضلا إن لم يكن مستحيلا. كما أن رجل الدين الشيعي المتنفذ آية الله علي السيستاني ومعه غالبية علماء الشيعة في العراق يرفضون مبدأ ولاية الفقيه. وحتى الأحزاب الشيعية بالعراق – المجلس الإسلامي الأعلى وحزب الدعوة – والتي تربطها صلات وثيقة منذ أمد بعيد بنظام طهران، تدرك صعوبة الموافقة أو تأييد النموذج الإيراني. وقد عبر القيادي بالمجلس الإسلامي الأعلى بالعراق عادل عبد المهدي عن ذلك بوضوح عندما قال «لا نريد حكومة شيعية ولا حكومة إسلامية».
ويصعب في الوقت ذاته الاعتقاد بكون رجل الدين المتشدد مقتدى الصدر وكيلا موثوقا للهيمنة الفارسية، نظرا لتوجهاته القومية العربية وسلوكه غريب الأطوار. علاوة على ذلك، يدرك الشيعة في العراق أن الانقسامات في بلدهم تتطلب بنية حاكمة مختلفة وتأكيد الاستقلال عن القوة الشيعية المجاورة.
 
ولكن إلى جانب الاختلاف حول دور الدين في السياسة، لدى كل من العراق وإيران نظرة مختلفة تماما حول مستقبل العراق، فطالما سعت إيران لتعميق الانقسامات المذهبية بالعراق كوسيلة لتوحيد الشيعة خلف المزاعم الإيرانية والحيلولة دون قيام دولة متماسكة فيه. فإيران تدرك أن عراقا ضعيفا لن يستطيع أن يقف بوجه طموحاتها الإقليمية. بيد أن الصراع الطائفي، توقف إلى حد بعيد مع هزيمة «القاعدة» والميليشيات السنية. ومع سعي العراق لإعادة تأسيس ذاته كدولة، أدرك المالكي أن الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران تشكل خطرا بالغا يهدد سلطته كما هو الحال بالنسبة للسنة العراقيين. وفي صيف عام 2008، أكدت قوة الدولة على رفعتها فوق الانتماءات الطائفية عندما اقتحم المالكي البصرة وهزم القوى الشيعية المتحالفة مع إيران. واليوم لم تعد واشنطن وحدها الطرف الوحيد الذي يتذمر من أفعال طهران بالعراق، بل الشعب العراقي أيضا، وقد حذروا طهران بشكل ودي وخلف الكواليس بشأن سلوكها المثير للمشكلات.

ربما يكون من الصعب عشية الانسحاب الأميركي رؤية مدى الأثر الذي خلفته السياسة الإيرانية في العراق، فمنذ الإطاحة بحكم الرئيس الراحل صدام حسين وإيران تنتهج منهجين متناقضين، الأول على الصعيد الحكومي ويسعي إلى إقامة علاقات وثيقة مع الحكومة العراقية وقدمت من خلاله الدعم والتجارة كوسيلة لتعزيز العلاقات الثنائية. بيد أن إيران كانت تقوم بتسليح ورعاية الميليشيات الشيعية التي تقاتل الحكومة العراقية. وقد يكون هذا المنهج قد حقق بعض النجاح خلال الحرب الأهلية، مع تطلع الشيعة الذين مروا بظروف عصيبة إلى إيران من أجل المساعدة، ومن ثم التغاضي عن تدخلاتها في بلادهم، بيد أن نهاية الحرب في العراق تركت إيران دون سياسة محكمة. فعجز طهران أو عدم رغبتها في حل التناقضات الجوهرية في نهجها أسهم بشكل كبير في تحول الحكومة والشعب العراقي المتلهف للتخلص من أعباء الصراع. وفي حين لم تكن واشنطن مستعدة للتعامل مع بداية الحرب الأهلية في العراق تبدو إيران غير قادرة على التعامل مع عواقبها.

ما إذا كان الانسحاب الكامل للقوات الأميركية من العراق من الحكمة أو غير ذلك، هو قضية جديرة بالنقاش، لكن الواجب في الوقت الراهن ضمان استمرار الاستقرار في العراق ومنع الأذى الإيراني في ضوء رحيل القوات الأميركية. ضمان ذلك يكمن في الدبلوماسية بقدر الانتشار العسكري.
واليوم، يعد الانفصال الأساسي للشيعة العراقيين من العالم العربي الأكبر، وقلق الأنظمة السنية المجاورة من حصولهم على القوة، عرضة لمكيدة إيرانية. فاستخدام الولايات المتحدة دبلوماسية أكثر نشاطا للضغط على حلفائها العرب لدمج العراق في المحيط العربي سيمنح بغداد مزيدا من الشركاء الاقتصاديين وشركاء حوار إقليميين، فضلا عن كونها وسيلة لإعادة ترسيخ نفسها كدولة محورية في العالم العربي. وفي الوقت الذي يصارع فيه الشرق الأوسط تحولات عادة ما تضع الهويات ضد المصالح، يمكن للعراق تقديم بعض الدروس المفيدة. فمثل هذا التطور في واقع الأمر لن يساعد في إعادة تأهيل العراق والتطور السياسي في المنطقة فحسب، بل سيزيد من عزلة إيران في محيطها المباشر أيضا 

السابق
ماذا يحدث في سوريا؟
التالي
محمد يزبك: الربيع العربي هو ربيع المقاومة والممانعة نشيد بحكمة سوريا في قبولها المبادرة العربية