فلسطين كلمة حق أمام سلطانٍ جائر

لم تستطع سطوة الولايات المتحدة الأميركية بكل جبروتها وكبريائها وظلمها وتعديها، وبما ملكت من قوةٍ غاشمة، وسلاحٍ غادرٍ قاتل، وسيطرة وهيمنة على الكثير من حكومات دول العالم، ومعها كيان الظلم والاستبداد، ودولة القهر والإذلال، التي قامت على المذابح والتهجير، ومعهما دولٌ قليلة افتأتت على الحق، وعاشت على الظلم، واستمرأت الفساد، ورضيت أن تكون تبعاً وذيلاً، تتقرب من الولايات المتحدة الأميركية وتخطب ودها، وتحرص على حبها والوفاء لها، وقد كانت هي السبب في تعاسة أمة، وتشتت شعب، وتمزق دولة، وضياع حلم، أن تمنع دولاً أخرى، وحكوماتٍ كثيرة من أن تقول كلمة الحق، بلا خوفٍ ولا جبن، وبلا ترددٍ أو إكراه، من دون أن تحسب حساباً لقوة أميركا ونفوذها، ولم تبالِ بالغضب الأميركي الذي سينصب عليها، وربما بالعقوبات التي ستفرضها عليها، كما لم تهتم بوعود الإغراء، ومنح الرشوة، إن هي سكتت عن الظلم، وامتنعت عن شهادة الحق، وأيدت الجلاد وتخلت عن الضحية، ولكن هذه الحكومات قالت كلمتها بلا خوف، وأعلنت تأييدها للحق الفلسطيني في أن تكون له دولة ووطن، وأن تتمتع كغيرها من دول العالم بعضويتها الكاملة غير المنقوصة في كل المؤسسات الدولية، ففلسطين دولةٌ لشعبٍ عريق يضرب بجذوره في عمق الأرض والزمن معاً، ولا يمكن لقوةٍ أن تجتثه، ولا لقهرٍ أن يشطبه، ولا لدولةٍ مهما علا سلطانها، واشتد بأسها، وامتد نفوذها أن تحرم فلسطين وشعبها من أن تكون له دولته على الأرض كلها، بكامل سيادتها وبكل حريتها، فكان اعتراف منظمة التربية والعلوم والثقافة «اليونيسكو» بحق فلسطين في دولتها ووطنها شهادةُ حقٍ أمام دولةٍ جائرة.

وبغض النظر عن تأييد بعض الفلسطينيين لهذا الاعتراف الرمزي أو رفضهم وإنكارهم له بحجة عدم الأهمية، وفقدان القيمة، وأنه لا يقدم شيئاً حقيقياً للشعب الفلسطيني، فما الذي سيعنيه هذا الاعتراف، هل سيطرد الاحتلال، أم أنه سيمكّن الفلسطينيين من رفع علم دولتهم فوق تراب فلسطين، وهل سيجبر هذا الاعتراف الحكومة «الإسرائيلية» على الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، والانسحاب من أرضه، والتسليم له بحقوقه كاملةً في أرضه ووطنه وتاريخه ومقدساته، أم أن هذا الاعتراف سيمهّد الطريق أمام مجلس الأمن الدولي للاعتراف بالدولة الفلسطينية، وسيشجع دول العالم في الجمعية العمومية للأمم المتحدة لتتخذ الخطوة ذاتها، وتؤيد الطلب ذاته، وترفض الفيتو الأميركي، وتتجاوز الرفض «الإسرائيلي» وتعترف بفلسطين عضواً كامل السيادة إلى جانب جميع دول العالم الأخرى.  
بعيداً عن هذا الجدل المحلي المؤيد والرافض، والمرحب والمستخف، فإن تأييد دول العالم لحق فلسطين في أن تكون لها دولة ووطن، وصوتٌ ومقعدٌ وسيادة، إنما هو ثورة على الظلم، ورفضٌ للهيمنة الأميركية والسيطرة الغربية، وبداية تحول لسياساتٍ دولية ترفض الهيمنة الأميركية، وتعارض سياسات التبعية لها، وتستنكر تهديداتها ومحاولات الضغط التي تستخدمها ضد دول العالم ومؤسساته، ترغيباً وترهيباً، عطاء وحرماناً، هذا الاعتراف إيذانٌ عملي وحقيقي بأن الولايات المتحدة الأميركية وحلفاءها لن يستطيعوا أن يمضوا في سياسة فرض الأمر الواقع بالقوة، وترهيب الآخرين بالفوضى والحرمان، وتهديدهم بالضياع والرحيل وفقدان الأمن والاستقرار، فقد قالت دولُ العالم كلمتها بوضوحٍ جلي، وصراحةٍ مدوية، دونَ خوفٍ على مستقبل، أو قلقٍ على حاضر، ولعل الإدارة الأميركية أحسنت قراءتها، وأصغت السمع لتداعياتها، وأدركت مفاعيلها ومدى التغيير الحادث في المزاج الدولي العام، فعلمت أن الزمن الذي كانت تضع فيه السياسات الدولية وحدها قد ولى، وأن الوقت الذي كان مندوبو دول العالم ينتظرون كلمة السر من المندوب الأميركي في مجلس الأمن والأمم المتحدة لم يعد موجوداً، فكل دولة لها سيادتها وقرارها المستقل، والعقل الإنساني أصبح يدرك الظلم وينقلب عليه، فهذا زمنٌ آخر وعالمٌ مختلف، لن تكون فيه السيادة للظلم، ولا الكلمة للسلطان الجائر.
اعتراف دول العالم في منظمة التربية والعلوم والثقافة هو اعترافٌ بقيم الحق ومبادئ العدل والمساواة، وهو انتصارٌ للحق على الباطل، وثورةٌ للمظلوم على الظالم، وهو إيذانٌ ببدء عهدٍ جديد تنتصر فيه الشعوب المقهورة على الحكومات القاهرة، وتعلو قيم العدل على معايير الظلم، وتسود معاني المحبة على أدران الكراهية والحقد، وهو اعترافٌ يضع العالم كله أمام مسؤولياته الإنسانية والأخلاقية، ويذكرهم بواجبهم حيال الشعب الذي تسبب الكيان "الإسرائيلي" في شتات شعبه، وتمزيق أرض وطنه، وهو اعترافٌ يدفع عقلاء العالم وعلمائه ومثقفيه لأن تكون لهم كلمة ورأي، وأن يثوروا على معاني الاستعباد والإذلال، وأن يرفضوا مفاهيم التبعية ومصادرة حرية الدول والشعوب في أن تقول كلمتها بحق، وأن ترفع صوتها بلا خوف، وهي دعوة الى مثقفي العالم لأن يمارسوا دورهم العلمي المهني المنصف الشفاف في بيان حق الشعوب، وتسليط الضوء على حقهم في النضال من أجل استعادة الأرض والحقوق، ونيل الحرية والسيادة، اعتراف «اليونيسكو» بالدولة الفلسطينية هو اعترافٌ بالهوية والثقافة الفلسطينية، وبالموروثات الحضارية التاريخية والدينية الفلسطينية.

لعل ما قامت به دول العالم في منظمة «اليونيسكو» واعترافها بحق فلسطين التاريخي والثقافي والديني والحضاري، هو انتصارٌ للضعفاء على الأقوياء، وهو انتصارٌ لأصحاب الحق على المتغولين عليه والغاصبين له، وهو تحالفٌ لحملة العلم والقلم على مالكي الدبابة والصاروخ وصنّاع الموت والخراب، وهو تأكيدٌ على تزاوج الثقافة والعدل، وافتراقها عن الظلم والبغي، وهو درسٌ بالغ الأهمية إلى الإدارة الأميركية وحلفائها أن أدواتهم في التغيير أصبحت بالية، ووسائلهم في تغيير المواقف لم تعد سارية، وأصوات الشعوب لم تعد مرهونة، وإرادة الدول لم تعد مكبلة، وأن عليها هي أن تؤوب إلى الحق، وأن تقلع عن الظلم، وأن تتوقف عن مساندة دولة البغي والطغيان، وأن تدرك أن «إسرائيل» تضرب بسيفها، وتقتل بسلاحها، وتعتدي بجبروتها، وترهّب الآخرين بتحالفها معها، فهل تحسن الإدارة الأميركية قراءة هذه الرسالة والاستفادة منها، أم أنها ستأخذها العزة بالإثم، وستمضي في غيها، وستبقى سادرةً في تيهها وضلالها، لا يردها حقٌ ولا يوقظ ضميرها عدلٌ!.  

السابق
اغتيال 4 شخصيات سياسية
التالي
الصحة تطلق حملة توعية عن الإيدز