صدى “وول ستريت” في واشنطن

تبدلت معالم ساحة (جيمس) ماكفرسون في وسط العاصمة الأميركية واشنطن. لم يعد تمثال القائد العسكري إبان الحرب الأهلية ملكاً وحيداً على عرشه (وحصانه)، واكتسى العشب الأخضر على جنباتها بمقيمين دائمين وعابري سبيل يسعون الى اكتشاف مصدر صرخة Occupy DC!
لم يعد محتلو شارع "وول ستريت" في نيويورك وحدهم في الميدان الرافض للتركيبة المالية والاجتماعية الأميركية. بات شعار 99% مرفوعاً في كل أرجاء الولايات المتحدة، من الشوارع العريضة للعاصمة واشنطن، الى ضفاف نهر الميسيسيبي العابر مدينة سانت لويس في ولاية ميسوري. شعار يرمز الى غالبية كاسحة لم تكن موجودة سوى في انتخابات "المبايعة" والاستفتاءات العربية التي ولّى زمنها، وتجد صداها ليس في تحركات الشارع الأميركي، بل في أروقة صانعي سياساته، وهم أيضاً من الواحد في المئة المتبقي.
نزل الأميركيون الى ساحات ليحتلوها، محفَّزين بدعوة "احتلوا وول ستريت"، ولاسيما بعد تحركها الأكبر على جسر بروكلين، الذي انتهى باعتقال نحو 700 من ناشطيها، أطلقوا جميعاً. في واشنطن توسعت دائرة الاهتمام، اذ ان المؤسسات المالية في العاصمة لا تتمتع بـ "الصيت" الذي تكتسبه دوائر المال في نيويورك. هنا في ساحة ماكفرسون، يمزج التحرك بين البعد "العالمي"، والأمور اليومية التي تعني الطلاب والمشردين والأميركيين العاديين الذين يتشاركون الهموم نفسها.
يشعر زائر المخيم "المفتوح" بأنه مقبل على مكان يجمع المشردين والعاطلين عن العمل، أو يشكل ملاذاً للذين لا ملاذ لهم، انطلاقاً من بعض النفايات المكدسة أو الملابس الرثة أو حتى بعض مظاهر الفقر المنتشر. في الداخل لا تتبدل الفكرة كثيراً، بل يضاف اليها طلاب وزوار من ولايات أميركية مختلفة، وسائل إعلام أميركية وعالمية، وحتى لافتات تأييد لرون بول، أحد المرشحين الى الانتخابات الرئاسية في 2012، طارحاً شعار "استعادة أميركا الآن". لكن "المحتلين" يتمتعون بتنظيم لا بأس به بالنسبة الى حركة احتجاج لم يتجاوز عمرها الشهر، مستوحاة من تحرك أكبر وأكثر تنظيماً وفاعلية في "المربع المالي" في نيويورك. موقع الكتروني خاص مزود خدمات بث على مدار الساعة، مرفق بإصرار على التوجه الى وسائل الاعلام برفض اعتبار اي من المحتجين "متحدثاً رسمياً" باسم المجموعة، لأن "الأحزاب والمنظمات هي التي تعتمد على هؤلاء. نحن حركة شعب"، مشددين على ان تحركهم "مبني على الأمثلة التي حددتها حركة "احتلوا وول ستريت"، وتركيزنا هو على الاقتصاد والفساد المؤسسي لنظامنا السياسي، والآثار السلبية لشخصنة الشركات". 
يؤمن المحتجون بتعاونهم ووحدتهم سبيلاً أوحد لتحقيق جزء يسير من المطالب التي يرفعونها، وأولها إعادة الاعتبار الى العدالة الاجتماعية القائمة على رفع الضرائب على "الأرباح الخيالية" للشركات والمؤسسات المالية العاملة في "وول ستريت"، أو أي شارع مالي في الولايات المتحدة والعالم. "البعد العالمي" لم ينحصر في التحركات التي عصفت بكبرى العواصم قبل نحو أسبوعين، بل يكتسب أهمية اضافية اليوم الخميس، مع الدعوة الى Occupy G-20 ("احتلوا مجموعة العشرين")، التي يجتمع قادة دولها في فرنسا. سيرفعون شعارات عدة كالتي كتبوها على اللافتات الورقية و"الكرتونية" في ساحة ماكفرسون.

يمضي المحتجون أيامهم في خيم يقارب عددها المئة، غالبيتها مخصصة للنوم، وبعضها لتحضير الطعام الذي يشارك يومياً في إعداده متطوعون من مختلف المشارب، بعضهم مشردون لا مكان لديهم للإقامة فيه. الموسيقى حاضرة، والتواصل بين المعتصمين قائم عبر التخاطب بصوت مرتفع باستخدام عبارة Mic Check ("فحص الميكروفون") لإعلان أمر ما، تردده الحناجر بصوت مرتفع من شخص الى آخر، ليصل الخبر من مدخل المخيم حتى آخر خيمة فيه. في بعض الزوايا أيضاً وداع وقبلات وشحذ همم، اذ يزور مخيم واشنطن تباعاً ناشطون من نيويورك وغيرها من المدن، ولاسيما منها أوكلاند التي شهدت مواجهات بين الشرطة ومحتجين، أصيب بنتيجتها أحد الجنود الأميركيين الذين خدموا في العراق، مما ولّد شعوراً بالسخط لدى كل المحتجين. أما التحضير لمواجهة برد الشتاء، فتتم باستقدام المزيد من الأغطية والخيم، والاعتماد على ألواح الطاقة الشمسية لتوفير المزيد من الدفء لـ "القاطنين" في المخيم، بعدما عمدت الشرطة الى مصادرة عدد من المولدات الكهربائية التي قدمها متبرعون للمحتجين، بذريعة انها "تسبب إزعاجاً للمارة وضرراً بيئياً".

والى الاعتصام الذي يصر المشاركون فيه على انهم لن يفضوه قبل تحقيق مطالبهم، أو أقله إقرار قانون للضريبة على الشركات المالية في "وول ستريت" يمكن ان يوفر – وفق أرقامهم – 350 مليار دولار سنوياً تؤول الى بدلات المعيشة والتأمين الصحي والتقاعد، نظم المحتجون الجمعة الفائت، تظاهرة عبرت شوارع وسط العاصمة للمطالبة بتوفير تعليم مجاني للطلاب، رافعين لافتات كتب فيها "أنا أتخصص في الدَيْن". حتى تاريخه لم يحقق المحتجون شيئاً يذكر سوى الاهتمام الاعلامي اللافت من أميركا والعالم. حركة صغيرة تشغل الناس بجرأتها على رفع الصوت ضد نظام مالي يتلقى ضربة تلو الأخرى، من برنارد مادوف الى أزمة الديون اليونانية التي تهدد أوروبا. ربما وجد الناس في مئات من المحتجين صوتاً قادراً على ان يصرخ في وجه أعتى "بولدوزر" اقتصادي في العالم. سأل كثيرون "من هم هؤلاء؟"، وغالبيتهم تمنت لو كان في امكانهم ترك أعمالهم والانضمام الى التحرك.
 

السابق
حطب جفت الزيتون الصناعي ينافس المازوت في حاصبيا
التالي
نتنياهو يجمّد تمويل إسرائيل لـلأونيسكو !!