دعوة بري للحوار لحفظ لبنان من تداعيات المنطقة؟

اقر رئيس مجلس النواب نبيه بري امام مراجعيه بعد وقت قصير من إشهار رغبته في السعي الى بعث الحياة مجددا في طاولة الحوار الوطني التي شغرت المقاعد المصطفة حولها منذ اكثر من عشرة اشهر، بأنه لم يكن في حوزته اي معطيات عملية تبيح له الانطلاق عمليا في ترجمة عودته هذه، فلا هو نسّق الموضوع مع المعني الاول رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، ولا راجع الافرقاء المفترض انهم معه في الخندق عينه، ولا "جس نبض" خصومه السياسيين واولئك الذين يحلو لهم أن يضعوا انفسهم في مقام البين بين.
انها اذاً، ووفق المتخصصين بسلوك بري، تنطلق من ثلاثة دوافع لديه:

– رغبة رئيس السلطة التشريعية في ملء الفراغ في الوقت المستقطع الذي يعرف بري وسواه انه يكاد يخلو من حراك سياسي فعلي، وان اطراف الساحة في حال انكفاء قسرية الى رصيف انتظار المخاض السوري وأحداث المنطقة الواعدة بالتحولات والعواصف ليبنوا على الشيء مقتضاه، واقتناعا منهم بأن ساحته ساحة تلقٍّ وصدى ليس اكثر.
ولم يعد خافيا ان المدى الاعمق لـ"فلسفة" بري السياسية المتراكمة من مراسه السياسي الطويل وخبرته العميقة في تفاصيل اللعبة السياسية اللبنانية، باتت تقوم على انتظار مثل هذه اللحظة "الفراغية" لملئها، بإطلاق مبادرات من هذا النوع، تثير التساؤلات وتستدعي التحليلات وردود الفعل المع والضد. 
ولا ريب، في ان بري يدرك في اعماقه ان "رفيقه" في رحلة دروب اللعبة اللبنانية المتشابكة، رئيس "اللقاء الديموقراطي" النائب وليد جنبلاط قد بات يجاريه او ينافسه في ميدان السعي ليكون صانع "المفاجآت"، واستطراداً ليكون "مالئ الدنيا"، فكانت مفاجأته الاخيرة في موضوع رئاسة الحزب التقدمي الاشتراكي وابداء الرغبة في هجران رئاسته في وقت وشيك، وهو الذي أسرّ لبعض خاصته بعد عام 1990 انه راغب في "بيع" هذا الحزب الذي صار تركة ثقيلة، وفي وقت لاحق راودته فكرة ابدال اسمه ليواكب موجة احزاب الخضر والحفاظ على البيئة التي كانت ناشطة في القارة العجوز اوروبا في مطلع عقد التسعينات من القرن الماضي.
– ان بري يدرك تمام الادراك وهو يطلق دعوته الى استئناف ورشة الحوار الوطني، وهو الذي في مقدوره ان ينسب لنفسه انه هو مبتدأها وخبرها، وله قصب السبق اليها، ان ما من طرف لبناني في امكانه التهرب من موجباتها وتجاهلها وان كان في امكانه وضع لائحة شروط وقائمة ملاحظات وانتقادات واستفسارات.

لذا، فهي الدعوة العائمة والجاهزة التي يمكن اطلاقها في اي مكان او زمان، فالحوار في ظل التناقضات والتباينات اللبنانية امر غير مستنكر على الدوام، فكيف اذا كان الوضع في مثل ما هو عليه الآن من الفصام والقطيعة والمعارك السياسية الصغيرة التي باتت خبزا يوميا، وهي ان لم تكن في وسائط الاعلام ففي اروقة اللجان النيابية او في قاعة جلسات الهيئة العامة لمجلس النواب.

– ان مثل هذه الدعوة الآتية من جانب احد ابرز رموز الاكثرية الحالية، انما تفضي بشكل او آخر الى "محاصرة" الخصم السياسي، اي الاقلية الحالية، وبالتالي اجبارها على التعامل جديا مع المطروح، والى بذل "جهد" كبير للتهرب منه، اذا كان واجداً ان طاولة الحوار التي يمكن نصبها في قصر بعبدا، ليست في مصلحته السياسية في الوقت الحاضر.

فمقاطعة مثل هذه الدعوة او الرد عليها بشكل سلبي له تفسير واحد في السياسة، وهو ان متبني هذه السلبية انما يعبّر عن رغبة في ابقاء الوضع على حاله من التوتر والانقسام، وعدم الرغبة في التواصل مع الآخر والتحاور معه حول الملفات المختلف عليها.
لذا لم يكن غريبا ان يضطر الرئيس فؤاد السنيورة الى "انهاء" قطيعته الطويلة مع الرئيس بري بالامس والالتقاء به تحت قبة البرلمان والاستماع الى وجهة نظره وفحوى دعوته المستجدة، وبالتالي اعطائه الوعد بدرس الموضوع مع الجهات المعنية وإتيانه بالجواب القطعي. ومع ان اوساط بري قابلت بالارتياح رد الفعل على مبادرته من احد ابرز رموز المعارضة الحاضر حاليا، اي الرئيس السنيورة، الا ان ثمة من ابلغ اليها ان هذه المعارضة تضيف الى جملة توجساتها من دعوة بري توجسا حديثا هو ان بري يقدم على دعوته الجديدة رغبة منه ومن حلفائه الاقربين في خطوط وقائية لقطع الطرق على تصعيد سياسي وغير سياسي تحضر له قوى المعارضة في الظل في قابل الايام اذا افلحت جهود خصومها في منع تمويل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان.
ومع ان من هم في محيط بري يرون ان امر خفض منسوب الاحتقان في البلاد امر ليس معيبا، فانهم يردون بشكل آخر، اذ يسألون لماذا لا ينظر اصحاب هذه الرؤية "التوجسية" الى ابعد من ذلك ويرون في دعوة بري وجها آخر ايجابيا، عنوانه السعي لحفظ الساحة اللبنانية من تداعيات توتير العاصفة في المنطقة عموما، وهو المسلك عينه الذي سلكته قوى الاكثرية وحكومتها منذ اندلاع الاحداث في سوريا عندما رفعت شعارها الاخير، وهو "الناي" بلبنان عن تداعيات هذا الحدث، وعابت على الذين يسعون سرا وعلانية الى الحيلولة دون انزلاق لبنان او مناطق فيه أكثر فأكثر في متاهات الحدث عينه.

لا يخشى الذين هم على تواصل بأجواء بري من ان يحسب البعض دعوة رئيس المجلس وكأنها "مزايدة" على الرئيس سليمان الذي اطلق قبل فترة الدعوة نفسها وتحدث عن ضرورتها مرارا، وان الدعوة الجديدة وصلٌ لما بدأه سليمان وتبنٍّ له، وبالتالي سيكون العمل سوية لإنجاح هذه الدعوة وبالتالي رؤية طاولة الحوار تنتصب في هذه اللحظات السياسية المشحونة بالتوتير والانتظار. 

السابق
جنون دمويّ لا حراك ثورة تغييري
التالي
كيف تهلّلون لربيع العرب وأنتم لم تنجزوا ربيع لبنان؟