عن الاستحالات الجنبلاطية وخريف المختارة!

مناصر الثورات في العالم العربي من تونس الى سوريا يضع «ربيع المختارة» في ثلاجة التأجيل… ولـ«البيك» اسبابه الشخصية والنفسية قبل اي مبرّر آخر. في قمة إحباطه السياسي فضّل الرجل ان يكون زبالاً في نيويورك على ان يكون زعيماً في بلد اسمه لبنان.
كان بالإمكان في تلك اللحظة الانفعالية تصوّر وليد بيك متأبطاً حقيبة جلدية فخمة يضع داخلها مستلزمات مهنته الجديدة «الطارئة» التي ستقوده الى اعظم مدن العمّ سام، تاركاً وراءه اعزّ ما يملك: إرث المختارة وذكريات لا تنضب عن تلك الوفود التي تحجّ اسبوعياً الى قصر البيك «لأخذ البركة». أصعب اللحظات قد تتجلى في فراق كلبه المخلص أوسكار، مرافق البيك في استقبال ضيوفه الرسميين وغير الرسميين، والمشارك الدائم في الاجتماعات السرية والعلنية والمؤتمرات الصحافية، وخاصة تلك التي اسّست لكبرى الانعطافات في مسيرة الرجل المثير للجدل. 

عملياً، كانت لحظة تخلٍ لم تأخذ الكثير من الوقت لتتبدّد في سماء زعامة يصعب ان تنتهي في مكبّ للنفايات. قالها مرة أخرى بمرارة اكبر. حين أطلق العنان لمخيلته الجانحة نحو شهوة اعتزال السياسة. اختار يومها سويسرا البقعة الأمثل على وجه الكرة الأرضية، برأيه، للتقاعد والاستمتاع بهدوء طال انتظاره. هدوء يفترض ان يمنح الزعيم الدرزي طاقة مضاعفة لقراءة مزيد من الكتب التي لم يتسن لبيك المختارة ان يفلفش صفحاتها في بيروت، حيث تنخر الأزمات والنكسات في عروق يومياته المدينية الصاخبة ولا تكفي عطلة نهاية الأسبوع لفلفشة أوراق وقصاصات مجمعة من كبريات الصحف والمواقع الالكترونية العالمية.

فجأة تتغلّب الواقعية على انفعال اللحظة. البيك ليس حاضراً نفسياً بعد للسير على توقيت الساعة السويسرية. يمكن لتزاحم الأفكار بمسحتها السوداوية في رأس الرجل أن تعيده بسرعة البرق إلى نشوة الواقع. حسناً، كيف يمكن للعقل الجنبلاطي أن يتصوّر، ولو للحظة، وليد بيك، جالساً على كرسي صغير في حضرة بحيرة في بقعة سويسرية تشبه الجنة. في يده كتاب «النزول إلى الهاوية» لأحمد رشيد، ذاك الكتاب الذي سبق له أن قرأه بتمعن وأهداه في لحظة تجلٍ الى السيد حسن نصرالله. إنها الهاوية نفسها. البيك وحيداً. بحيرة لوزان أمامه وذكريات الزعامة خلفه. لن يكون الرجل قادراً على استيعاب الهدوء السويسري «الإلهي». ستحضر عنوة صور ومحطات من حكم «مارشال المختارة» بجينزه الأميركي. جلبة الوفود الشعبية التي تريد أن تلمس يد حفيد نظيرة جنبلاط. سطوة ذاك الإصبع الذي لا يردّ له طلب.

من كليمنصو الى المختارة. بيت يجمع الأضداد. السفير السوري علي عبد الكريم علي يتناول الغداء على المائدة الجنبلاطية. على الطاولة نفسها جلس ياسر عرفات وعبد الحليم خدام وفنسنت باتل وجيفري فيلتمان وميشيل سيسون ومورا كونيللي ومحمود درويش وعزمي بشارة ونعوم تشومسكي وفاسيلي كولوتوشا وأوليغ بريسبكين… واللائحة تطول، من دون أن ننسى همايون علي زاده وسفير الجمهورية الإسلامية الحالي.
يحتضن وليد جنبلاط الدبلوماسي الإيراني غضنفر ركن أبادي، بعد ان قادته خطيئة أيار 2008 الى المطالبة بطرد السفير الإيراني ومنع طيران «الجمهورية الإسلامية الإيرانية» من الهبوط في بيروت «قبل ان يمشوا بجنـازتي او جـنازة سعد الحريري». لم يطرد سفـير طهران، ولم يمـش احد في جنازة اي من الزعيمين. استدرك الرجل فداحة المـغامرة الطائشة. عاقب نفسه بنفسه وعلى طريقته. هو الرجل الوحيد الذي لا يخضع للمساءلة في لبنان، على مستوى حزبه وطائفته تحديداً.
وحدها المختارة تبرع في جمع الأضداد. لا احد غيرها. كيف يمكن لـ«البيك» ان يتخلى بلحظة عن مجد الدور، وصياغة التسويات، والتفنن في حياكة التحالفات، و«التمنن» بتوزيع المقاعد النيابية، والتبشير بالانقلابات، والتلذذ برؤية الحليف يضع يده على قلبه بانتظار ان يومئ البيك برأسه نزولا او صعوداً إيذاناً بالموافقة او رفض مشروع او خطة او تصويت مصيري على طاولة مجلس الوزراء.

هي الهواجس نفسها تحضر، وبقوة، حين يقرّر الزعيم الدرزي ان يتخلى عن جزء من الزعامة. عن رئاسة «حزب العمال والفقراء والفلاحين»، وليس عن دور النيابة والمختارة «الذي هو شأن عائلي وسياسي».
وليد جنبلاط، الجندي الصغير في «جيوش» الثورات العربية المتنقلة من ميادين التحرير والتغيير الى ساحة الامويين، ما يزال يتحدث بلغة الـ«أنا». يرفض التوريث. يشقّ الطريق بيديه، التي لم تعرف يوماً ملمس تعب الفلاحين والفقراء، أمام الوجوه الحزبية الشابة. يتخلى عن رئاسة عمّرت عقوداً… لكن الـ«أنا» الجنبلاطية ستقرّر مصير ذاك «الشأن» العائلي. هنا تحديداً، وفي غمرة تحديد مصير «ذاك الشأن»، ستحضر المستحيلات: استحالة جلوس البيك على مقاعد المتفرجين. استحالة التوريث. استحالة فقدان الدور. استحالة القانون الانتخابي. استحالة خسارة الهيبة. استحالة الموقع. الأقلية. الجغرافيا. الديموغرافيا. التراجيديا.
وللتوضيح، رئاسة الحزب، محرّمة مبدئياً، على تيمور. لكن من قال إن الشاب الخجول لن يكون وريث الزعيم في مقعد الشوف «العائلي»… هنا فقط يصبح الربيع «خريفاً»، ولو ازدانت كل جدران المختارة وكليمنصو بأجمل اللوحات والقطع الأثرية النادرة. 

السابق
ويبقى المستهلك ضحية الاحتكارات
التالي
عون فَقَدَ الأمل في الحكومة والمجلس