وإسلام سياسي بشهادة حسن سلوك أميركية!

تتزاحم قوى كونية عظمى وقيادات عربية مستولدة حديثاً على نعي «القومية العربية».
يتم القطع التام بين الانتفاضات العربية التي يؤكد تزامنها القواسم المشتركة التي تجمع بين «جماهيرها»، وأولها وأخطرها أن ما يحدث في مغارب الأرض العربية له صداه المباشر في مشرقها، وهو صدى مؤثر وفعال يؤكد وحدة الأهداف والتأثير المتبادل الذي يتجاوز العواطف والمشاعر الى تأكيد وحدة المصير.
يتسابق المنظرون والخبراء والمحللون الاستراتيجيون الى تأكيد «محلية» كل انتفاضة وتمايزها المطلق عن سائر الانتفاضات العربية، وإن اعترفوا بأن «المناخ» السائد قد ينقل عدوى الاحتجاج والرفض من مجتمع الى آخر، مستندين الى «المرجعيات الثورية» المعاصرة بدءاً من بولونيا وصولاً الى أوكرانيا، فضلاً عن الانهيار الصاعق للاتحاد السوفياتي العظيم في غمضة عين قدرية.
في نظر هؤلاء لا ملامح مشتركة ولا تقارب او تماثل بين المجتمعات التي اكتسحت جماهيرها الشوارع، وصولاً الى قصر السلطان لخلعه.

لم يسمع هؤلاء كلمة «العروبة» تنطلق بها حناجر الجماهير الثائرة هادرة ومؤكدة حتمية التلاقي، ولم يروا أعلام العروبة ترفرف في الميادين، وفاجأهم واقع أن فلسطين كانت الغائب الأعظم عن أفكار الثوار وعن أجهزة التواصل الالكتروني في ما بينهم، كما ان هتافاتهم لم تتعرض لإسرائيل ومجازرها المتتابعة ضد الشعب الفلسطيني وأرضه ومقدساته وحقه في دولة له فيها، إلا نادراً.
هي ثورات وانتفاضات محلية قد تبرز في سياق حركتها شعارات إسلامية، ولكنها مقطوعة الصلة بالإسلام الجهادي او الإسلام الإرهابي.. أو هكذا يراد تصويرها. إنه «إسلام مودرن» معقم بمطهرات اميركية – بريطانية – أطلسية، ويتسابق على الترويج له الرؤساء باراك اوباما ووزيرته هيلاري كلينتون، ونيكولا ساركوزي ووزيره ألان جوبيه ورئيس حكومة بريطانيا ووزير خارجيته الفصيح… فضلاً عن طوابير الأكاديميين والصحافيين المتخصصين، ولا يهم إن كان بينهم إسرائيليون بالمنشأ او بالتطوع او بالرغبة، في إيضاح ما يستغلق فهمه على مواطني الدول الغربية المثقلين بهمومهم المعيشية وموجة الافلاسات غير المسبوقة التي تزلزل اقتصاديات العالم الحر. 
فإذا ما اخطأ واحد من قادة «الثورة المدنية المعاصرة» فتلفظ بما يعبر عن خزين وجدانه وما يعتبره الطريق الى الغد الأفضل، مؤكداً أن دستور «دولة ما بعد الثورة» سوف يلتزم «الأحكام الشرعية» وسوف يطبق «القانون الإلهي»، في كل ما يخص المرأة وقواعد السلوك، ُشنت عليه حملة شرسة بألسنة متعددة، حتى يتراجع صاغراً ويقر بخطئه الفادح ويكفر عنه.. بالطلب من الحلف الأطلسي تمديد مهمته ألتحضيريه في ليبيا ذات الصحراء الذهبية.
ثم، فجأة ومن دون سابق إنذار، يدوي في خطاب الاحتفال بالنصر القرار بإعادة الاعتبار الى بضعة أنفار من اليهود المحليين، والإقرار بأنهم مواطنون صالحون يتساوون في الحقوق والواجبات مع أتباع الديانات الأخرى… وتسقط فلسطين، سهواً، من خطاب التحرير، لتفهم إسرائيل، وهي الموجودة في كل تلك القوى الدولية التي هبت للنجدة فدمرت ليبيا، عمرانا وجيشاً، إن «الثورة» لا تضمر لها أي شعور بالعداء او بالكراهية… فالمؤمنون أخوة، ولا يفسد الخلاف على بعض الأرض التلاقي في الإيمان بالواحد الأحد وجنته التي تتسع للجميع.
أما في تونس فيتم التمهيد لفوز «الإسلاميين المعتدلين» في الانتخابات عبر بيانات رسمية لدول غربية عديدة، ترحب بهؤلاء «التائبين» الذين نفضوا عن كواهلهم أثقال الأصولية، وتبرأوا من السلفية، وأدانوا «القاعدة»، وكادوا يحصرون انتماءهم الى الدين الإسلامي بأنه إنما يتم بحكم الوراثة، أما ما بعد ذلك فهو «إسلام معاصر» يرطن بالإنكليزية والفرنسية والألمانية والروسية وحتى.. العبرية!
لا تعني هذه الكلمات بأي حال إدانة لحزب النهضة التونسي الذي استقبل الجمهور العربي انتصاره في الانتخابات بالترحيب، لأنه يحفظ له تراثه النضالي في مواجهة نظام القمع البورقيبي الذي حاول «تجديد شبابه» مع زين العابدين بن علي.
ولكن الحرص على هذا الحزب العائد من المنفى وقيادته المستنيرة يفرض تنبيهه الى ان موجة الترحيب الدولي بفوزه لا تتعامل معه بتاريخه النضالي، بل هي تفترض ان فترة زمنية من النفي وإعادة الثقيف والتعرف الى ديموقراطية الغرب وتسامحه كانت كافية «لتدجينه»، بحيث يغادر التطرف والتعصب الى الديموقراطية السمحاء… أي من وطنيته وعروبته الى ذلك «المطهر» الذي أقيم حديثاً، لكي يدخله القائلون بالعروبة التي تعني وحدة المصير بين أهل المشرق وأهل المغرب، والذين هم بأكثريتهم الساحقة من المسلمين، فيخرجون منه الى الغربة عن واقعهم وعن هويتهم بذريعة الالتحاق بالعصر.
فالإسلام، في خاتمة المطاف، دين سماوي، ولكنه ليس هوية وطنية، فإذا ما تم تسييسه، كما نشهد في العديد من الدول التي ترفع الشعار الإسلامي، فسنجد أنفسنا أمام مجموعة من الأنظمة متناقضة السياسات متضاربة المصالح، والتي لا تصلح – بأي معيار- كدليل على الديموقراطية والتقدم واحترام حقوق الإنسان، بل إنها متهمة – في الغالب الأعم – بانتهاك هذه الحقوق وبمعاداة الديموقراطية، وكذلك بالخروج على الدين، في رأي معظم المرجعيات القائمة على شؤون الفقه.
ثم ان الغرب، الذي يرعى العديد من التنظيمات الإسلامية الآن ويتبنى «الحركات غير الجهادية»، يهتم أكثر ما يهتم بأن يجعلهم في وجه الحركة الوطنية التي تماهي العروبة.
وهو بذلك يستفيد من كون الحركات التي رفعت راية العروبة ووصلت الى السلطة باسمها قد انقلبت على الهوية التي كانت جسر العبور وقاتلتها حتى النفس الأخير فأخرجتها من الشارع بالقمع الدائم.
أبسط مثال يتبدى جلياً في موقف الغرب من حركة «حماس»، و«حركة الجهاد الإسلامي» في فلسطين، فضلاً عن «حزب الله» في لبنان… قبل ان نصل الى موقف الغرب من الجمهورية الإسلامية في إيران.
أليس لافتاً أن يعيد الغرب عموماً الاعتبار الى التنظيمات العربية للإخوان المسلمين، فتستقبل بعض قياداته في واشنطن ولندن وباريس وبرلين وروما الخ.. ويتم الاستماع الى وجهات نظرهم التي تتضمن شيئاً من طلب التوبة عن ماضيهم المغامر، وعن اندفاعهم في معاداة الغرب الى حد تحميله المسؤولية عن إقامة إسرائيل، وعن دعمه «أنظمة الكفر» وتخليه عن «المؤمنين» الذين يشتركون مع أتباع الديانات الأخرى في مواجهة الأفكار الإلحادية الهدامة؟
ثم ان الغرب يتعامل مع تنظيمات الإسلاميين وفق قواعد صارمة: فهو يشترط ان يكون الإسلامي في مصر مصرياً، وفي تونس تونسياً، وفي ليبيا ليبياً وفي اليمن يمنياً… وألا يتم التواصل بين الفرق الإسلامية، او التنسيق في المواقف ناهيك بتوحيد الموقف من القضايا المطروحة. فالمحلية هي شهادة حسن السلوك التي يمكن ان تنالها التنظيمات الإسلامية من «الدول» التي كانت تخاف منها وهي الآن في الطريق الى رعايتها.
أما الإسلامي في السعودية، مثلاً، او في الكويت، او في الجزائر، او في أي بلد نفطي، وبمعزل عما اذا كان نظامه ملكياً أو اميرياً او جمهورياً، فإن التعامل معه يتم بمدى خطورته على منابع النفط وأنابيبه ومرافئ تصديره.
ليمضِ الإسلاميون عمرهم في الصلاة وليذهبوا الى العمرة والحج ما وسعتهم القدرة، وليصوموا الدهر، بمعزل عما يفعلونه في الخفاء… وليشتروا الأسهم والشقق الممتازة في لندن وباريس وكان ونيس وسائر المصايف والمشاتي، وليتزوجوا من شاءوا من النساء، فالدين يسر لا عسر.
ليحكم أمثال هؤلاء من الإسلاميين ما تيسـر لهم او ما فــتح الله عليـهم من بلاد… وليأخذوا من أموال النـفط ما شاءوا. المهم أن تبقى السياسة لأهل السياسة من الأصدقاء في العواصم التي كانت معادية فاهتدى حكامـهم الى ان الإسـلام السـياسي هو حليـفهم الأكيد وصديقـهم المخلص، خصوصاً أن دينهم يحضهم على الوفاء بالعهد.. إن العهد كان مسؤولا! 

السابق
إسرائيل تردّ على اليونيسكو بألفي وحدة إستيطانية بالقدس
التالي
جابر عرض شؤوناً مطلبية مع فاعليات النبطية