مقتل الثورة!

لم أكن في حياتي نصيرا لمعمر القذافي. كنت وما زلت أعتقد أنه كان أحد رموز حقبة الانحطاط العربي، التي بدأت في ستينات القرن الماضي، وتسارعت بعد هزيمة يونيو (حزيران) عام 1967، وجسدتها نظم حكمت بلادنا كانت تتعثر بهذا القدر أو ذاك في سيرها على طريق الانفتاح والحرية، فحولتها إلى معسكرات اعتقال وسجون مغلقة، ودول ظلم وفساد وفوضى باسم قيم ومثل سامية وعدت العرب بتحقيق الحرية والعدالة، فإذا بها تقطع أي طريق يمكن أن يفضي إلى أي نوع من الحرية، وتنقلب على وعودها، وتضع نفسها في مواجهة شعوبها، وتعيد إنتاج وتحديث أسوأ ما كان الشعب يرفضه من واقعه، فلم يبق له بعد نفاد الصبر غير الثورة، التي نراها في كل مكان ولا هدف لها غير استعادة مسار الحرية الذي انقطع، وطي حقبة الانحطاط المستشري وإسقاط النظم التي فقدت قدرتها حتى على إطلاق أكاذيب ذات مصداقية، ولم يعد لديها غير القوة العارية تحمي بواسطتها كراسيها وامتيازاتها وبؤس شعوبها. لا شك في شرعية الثورة الليبية وأهميتها التاريخية.. المحلية والعربية والدولية. ولا بد من إبداء الإعجاب الصادق ببسالة شعب ليبيا العظيم وتصميمه على تقديم ذلك القدر الكبير جدا من التضحيات، الضروري لنيل الحرية والتخلص من حاكم كانت تصرفاته أقرب إلى الجنون منها إلى السياسة، برز وخرب كل ما طالته يداه في زمن جنون عربي شامل فرضته النظم على الأمة العربية من محيطها إلى خليجها. لا شك أخيرا في أهمية النموذج الذي تقدمه ليبيا لثورة الشعوب العربية، سواء من حيث أبعاده ومعانيه، أو من حيث نتائجه المباشرة عربيا ودوليا، علما بأن ليبيا ستواجه بعد إسقاط الديكتاتورية تحدي المحافظة على الطابع الوطني لثرواتها، ووضع حد للتدخلات الأجنبية في شؤونها، وبناء تجربة سياسية تحررها من ركائز ومقومات الاستبداد أينما وجدت في الدولة أو المجتمع، وبناء دولة مستقلة لها حامل مجتمعي فاعل ومنظم، تستطيع وضع نفسها خارج ما يمكن أن يكون مرسوما لها على الصعيد الدولي.. سواء كان ذلك سيتم باسم شراكة النضال ضد الديكتاتورية، أو باسم التعاون اللازم لإعادة تعمير البلاد ضمن حاضنة متوسطية عامة.
لكن شرعية الثورة لا تعني أن كل ما فعلته كان شرعيا. يؤكد ذلك مثالان خطيران:

1) مقتل اللواء أبو بكر يونس، عضو مجلس قيادة ثورة عام 1969 وقائد الجيش الوطني منذ انضم إلى ثورة 17 فبراير (شباط) عام 2011 في بنغازي، والذي تولى قيادة القتال ضد كتائب القذافي وقتل في ظروف غامضة نشرت حولها روايات رسمية متناقضة، اتفقت جميعها على وصف مقتله بالجريمة التي سيعاقب مرتكبوها، لكن شيئا من ذلك لم يحدث وتم طي القضية وتوقف الحديث عنها، رغم اعترافات واضحة بأن قتلته ينتمون إلى تنظيم إسلامي متشدد ومقرب من تنظيم القاعدة. تلك كانت جريمة كشفت عن جوانب داخلية من علاقات وتوزع القوى داخل صفوف المقاتلين ضد نظام القذافي، وحجم مشاركة الإسلاميين المتطرفين في الأعمال المسلحة، والطرق الكيفية بل والفوضوية التي يمكن لبعض التنظيمات العمل من خلالها دون حسيب أو رقيب، ودون محاسبة أو مساءلة جدية، علما بأن القتيل لم يكن ضد الثورة بل كان على رأس قواتها، التي يفترض أن التنظيم الذي قتله كان جزءا منها وتابعا له وخاضعا لإمرته. ذلك كان حدثا ترك علامات استفهام كثيرة حول بنية أجهزة الثورة ومدى سيطرة القيادة السياسية والمجلس الانتقالي عليها، وما إذا كانت قواتها تنظيمات مستقلة ذاتيا تعمل لتحقيق رهانات متباينة، أم أنها تنظيم واحد يقاتل في سبيل قضية واحدة. وبصراحة، كان الانطباع أنه لا يوجد تنظيم موحد وخاضع لسلطة موحدة ومركزية، مما ألقى بظلال من الشك على حقيقة الثورة وهويتها وتماسكها ومجراها.

2) مقتل القذافي، الذي يستحق أن تقال جميع كلمات الدنيا السيئة فيه، لكنه تكررت في حالته ظواهر شبيهة بتلك التي لازمت مقتل القائد الثوري أبو بكر يونس، سواء فيما يتعلق بتضارب التصريحات، أو بالنسبة إلى الفلتان الأمني للثوار، أو غياب قرار واضح من المجلس الانتقالي يحدد تصرفات الثوار عند إلقاء القبض على القذافي أو العثور عليه حيا. في البداية، أظهرت التلفازات العقيد في حالة عادية، وروى من ألقوا القبض عليه أنه بادرهم بالقول: «خيركم، خيركم، شو فيه؟!»، وأنه كان مصابا بجراح بسيطة في قدمه وكتفه.

ثم أظهرت صور أخرى أشخاصا غاضبين ينقضون على العقيد وفي يد أحدهم مسدس، تلتها صور بدا فيها على ظهر شاحنة «بيك آب» والدماء تنزف بغزارة من رأسه، وأخيرا أظهرت صوره رصاصة في صدغه الأيسر يبدو أنها هي التي قتلته. في هذه الأثناء، كان مسؤول ليبي يقول إنه قتل خلال محاولته الهرب وهو في الطريق إلى مصراتة، وآخر يدعي أنه قتل خلال اشتباك مع آسريه، وثالث يزعم أنه مات بسبب جراحه وعجز مسعفيه عن الوصول إلى المستشفى، ورابع يتحدث بكل بساطة عن اغتياله، بينما أجمع المتحدثون على القول: إن من غير الجائز مناقشة طريقة مقتله، لأنه كان مجرما ويستحق القتل. هذا الإجماع يعتبر أمرا يفوق في خطورته واقعة قتل رجل أعزل كان قادة الثورة يعدون بتقديمه إلى المحاكمة بمجرد أن يتم إلقاء القبض عليه، وها هم يرفضون مجرد السؤال حول الطريقة التي قتل بها، متجاهلين ما يعنيه قتله من فلتان أمني خطير في الصف الثوري، يؤكد أنه لا يخضع لأي إطار سياسي موحد، وأن القتلة يصعب أن يكونوا ثوارا ينفذون تعليمات واضحة يتقيدون بها لأنها صادرة عن جهة تعرف ما تفعله، وتعلق أهمية خاصة على تفوقها الأخلاقي على نظام العقيد، وترفض اللجوء إلى أساليبه في القتل العشوائي والتعسفي، وتتحسب للنتائج الخطيرة التي تترتب على أي خطوة يقوم بها رجالها ولمدلولاتها، خاصة إن كانت تنفي عن الثورة صفتها كفعل هدفه الحرية، يحترم الإنسان ويرى فيه كائنا له حقوق لا يجوز المس بها، بغض النظر عما قد يكون فعله، يحق للقضاء وحده الاقتصاص منه، فإن فعلت الثورة عكس ذلك أو غيره، فقدت حقها في الحديث عن تحقيق الحرية كمبدأ يجب تطبيقه على كل إنسان، مهما كان موقعه ودوره وكانت أفعاله.

ويزيد من خطورة الاستهانة بالحرية في الحالة الليبية عوامل متعددة، يبدو أنها هي التي حددت سلوك قتلة أبو بكر يونس ثم القذافي، على ما بينهما من فوارق، أهمها الانقسامات القبلية والجهوية، التي يعتبر إنكارها واحدة من مشكلات العقل السياسي الليبي، وخلو ليبيا من أحزاب سياسية، وانتشار السلاح بين أيدي الناس، وضعف تقاليد البلاد السياسية، وضمور الوعي الديمقراطي لدى نخبها الحديثة القليلة العدد، والآثار الناجمة عن القتال ضد النظام، وضعف الطبقة الوسطى وغيابها عن السياسة والشأن العام طيلة فترة الاستبداد، التي تمثل قرابة 80 في المائة من تاريخ ليبيا المستقلة، ومركزية السلطة ودورها في وحدة الدولة السياسية وتوزيع عوائد النفط وإدارة الاقتصاد الريعي.. إلخ، فإذا أضفنا إلى ما سبق من عيوب بنيوية الدور الكبير الذي سيكون للمقاتلين عامة، ولضباط الجيش خاصة في حاضر ومستقبل ليبيا، فهمنا ما تمثله حادثتا القتل من خطورة على التجربة الديمقراطية الموعودة في ليبيا الجديدة، وأدركنا أن نجاحها سيواجه مصاعب كبيرة.
تعني ثورة الحرية بناء دولة مواطنة حاملها المجتمع توجهها فكرة جامعة وينظم القانون علاقاتها وأعمالها باعتباره السيد الوحيد فيها، يقوم بناؤها على حقوق الإنسان والمواطن والعدالة الاجتماعية والمساواة. قد يقول قائل: ما أهمية أخطاء صغيرة كمقتل رجلين بالمقارنة مع عظمة ما أنجزته الثورة؟ الجواب: تبدأ الأخطاء الكبيرة دوما مما يعتقد أنها أخطاء صغيرة، ومبررة!.. أجمع الكل على أن طريقة قتله ليست مهمة، أو أنها لا تستحق أن تناقش أو تثار، لأنه كان مجرما قتل كثيرين  

السابق
رغم اتهامه بالتساهل في قضية المليارات وزير الاقتصاد الإيراني ينجو من قرار لإقالته
التالي
لماذا تعادي أمريكا فلسطين؟!