النظرية البشّارية..

الأساس "النظريّ" الذي يستند إليه رئيس النظام السوريّ في قيادته للمجزرة الجماعيّة المتواصلة ضدّ الثورة الشعبية السوريّة، هو استماتة الاستبداد الراكد (المومياقراطية) لاستعادة الحيويّة، وتحوّله من جديد إلى "استبداد حيويّ".
في السابق، كانت حيويّة الاستبداد الجمهوريّ العربيّ تستند إلى "التداول الإنقلابيّ على السلطة"، وشكلت سوريا النموذج التطبيقيّ الأمثل لتسارع وتيرة الإنقلابات. ثم صار "الركود" غاية بعينها بالنسبة إلى الإستبداد (إستقرار الطغمة). جاء "الإنقلاب الأخير" ليختم مرحلة "التداول الإنقلابيّ على السلطة" ويؤسّس لنفسه كـ"إنقلاب مؤبّد وأبديّ"، فاضمحلت الطفرة الإنقلابية في العالم العربيّ منذ بداية السبعينيات، وشكّلت سوريا النموذج التطبيقيّ الأمثل لهذا "الإنقلاب الذي ليس بعده إنقلاب": حكم "التصحيح" بقيادة الرئيس الراحل حافظ الأسد. والآن، وبعد أن انتصر الربيع الثوريّ في كل من مصر وتونس وليبيا ويكاد ينتصر في اليمن، فقد جاء دور "الإصلاح" الذي يقوده الرئيس بشّار الأسد لتقديم سوريا للمرة الثالثة في التاريخ العربيّ الحديث بوصفها النموذج التطبيقيّ الأمثل للإستبداد، فبعد الإستبداد "الحيويّ" للإنقلابات المتعاقبة، ثم الإستبداد "الراكد" للتصحيح الأسديّ، جاء "الدور الثالث": إستعادة النظام حيويّته من خلال الحيويّة القمعية الدمويّة التي تعيد إنتاج تماسكه في مواجهة الثورة. "الخصوصية السورية" التي يتكلّم عنها الأسد الإبن تكمن هنا. الإستبداد لم يسعَ إلى مغامرة إستعادة حيويّته بالقمع الدمويّ الواسع النطاق، لا في تونس ولا في مصر. الإستبداد سعى إلى ذلك في ليبيا، لكن نظامه فقد تماسكه منذ الأيّام الأولى لانطلاقة الثورة. أمّا في سوريا، فتماسك النظام نفسه رهن بالجرأة على القمع الدمويّ المتواصل لأحرار الشعب الثائرين.
 
أكثر من ذلك، لا تبتغي الحيوية الدمويّة الإستثنائية محاصرة أو إطفاء طاقات الجموع الثائرة، بل مصادرة هذه الطاقات، لإعادة تشغيل محرّكات النظام الصدئة. ولعلّنا نجد مثالاً حيّاً وشديد الرمزية في أنّ النظام الذي قتل المنشد الحمويّ ابراهيم القاشوش واستأصل حنجرته ورمى جثّته في نهر العاصي، لم يتردّد لحظة في استعارة لحنه المعروف وتسخيره لامتداح الطاغية.
في ما مضى، ازدهرت تنظيرات شتّى في تقديس العنف، بين من نظر إليه كعنف "يعجّل" الخلاص النهائيّ، ومن نظر إليه بوصفه "القابلة القانونية لكل مجتمع يولد من جديد"، ومن نظر إليه بوصفه عنفاً "تطهيريّاً" يحرّك تعاقب الأجيال القيادية وحتى الإدارية. أما اليوم، فـ"المسكوت عنه" في دعاية الممانعة هو انتشار مذهب جديد في تقديس "العنف": قمع الثورة هو "الممرّ الإلزاميّ" للإصلاح. دمويّة النظام هي "الممر الإلزاميّ" لتحوّله من "إستبداد راكد" إلى "إستبداد حيويّ". بل إنها الضمانة بأنّ هذا النظام لن يكون بمستطاعه بعد ذلك أن يعود "إستبداداً راكداً" من جديد.

معمّر القذّافي نظر إلى كل الثائرين عليه كجرذان. بشّار الأسد فرّق بين فصيلين من الثائرين: المغرّر بهم والمتآمرين عليه من ناحية، والشهداء، أولئك الذين تقتلهم "العصابات الإفتراضية"، وهؤلاء يقتلهم النظام كي يمدّونه بالطاقة اللازمة لاجتراح الإصلاحات.
وهكذا، فإنّ هذا الأساس "النظريّ" يستند إلى "معادلة حيويّة للبقاء": كي يستمرّ النظام بقيادة بشّار الأسد ويجترح إصلاحات لم يفكّر بها أحد من قبل، ينبغي أن تزهق أرواح عشرات المواطنين السوريين كل يوم.
وطالما استطاع النظام قتل عشرين إلى خمسين نفرا كل يوم فلا خوف على مصيره ولا حرج. كل يوم يؤمّن فيه النظام هذه "الغلّة الدمويّة" هو يوم تصير فيه "الأزمة وراءنا". وإذا قدّر له أن يبقي على العلاج إلى ما لا نهاية، فبمستطاعه أن يُبقي على بشّار الأسد إلى ما لا نهاية، أي إلى حين انتقال سلسلة "التوريث" إلى الرئيس العتيد.. حافظ الثاني.
المقلب الثاني من المعادلة أنّ النظام إذا ما تراخى ولو ليوم واحد، عن تحصيل "الغلّة الدمويّة"، فإنّ الثورة حينها يمكن أن تتسع بشكل لا يمكن السيطرة عليه بعد ذلك، أي بشكل لا يمكن بعده الإتكال على "تماسك النظام". تماسك النظام رهن بقتل عشرين إلى خمسين نفرا يومياً. إذا توقف القتل يفقد النظام توازنه، تماسكه، وتنتصر الثورة.
هذا يعني أنّ النظام يملك "نظرية للخروج من الأزمة"، الخروج منها في كل يوم، لكنه لا يملك أي نظرية لإخماد الثورة، بل أكثر من ذلك، صار يعتبر إخماد الثورة خطراً عليه، خطراً على وحدته الداخلية كنظام. كي يستمرّ النظام إلى ما لا نهاية، عليه أن يستمرّ في تحصيل "الغلّة الدمويّة" يومياً ومن دون تراخ. أمّا إذا حدث وهمدت الثورة فجأة فإنّ النظام لا يعرف حقيقةً ما العمل، لأنّه إن كان ثمّة عاقل في هذا النظام فهو يدرك جيّداً أنّه ما عاد النظام صالحاً كنظام لـ"اليوم التالي" على انهيار الثورة. هو غادر إلى الأبد صفته كـ"إستبداد راكد" ولا يمكنه أن يعود إلى سباته من جديد. أمّا حيويّته فهي حيويّة "الريع الدمويّ اليوميّ" ولا يمكن أن تتحوّل إلى حيويّة من نوع آخر. 

السابق
توزيع أسلحة فردية
التالي
استقالة المدير !!