الضاحية الجنوبية: مجتمع ضاع فيه النظام

لا تنتظر الضاحية الجنوبية اعلاناً او خبراً يبشر بارتفاع عدد سكان العالم الى المليارات السبعة، لان "ما فيها يكفيها" وهي الحاضنة لاكثر من نصف مليون نسمة، على مساحة كيلومترات معدودة في دولة ربما هي الوحيدة في العالم التي نأت بنفسها عن احتساب عدد سكانها منذ نحو قرن من الزمن(اخر احصاء رسمي للسكان كان في العام 1932)، فانها لا تفصح للبشر فيها عن عددهم الحقيقي، رغم وضوح لوائح الشطب في الانتخابات النيابية والبلدية.

عرف لبنان تقلبات ديموغرافية عدة، نتيجة النزاعات والحروب التي دارت رحاها على مساحته الصغيرة ومن ابرز تلك التقلبات تمركز نحو نصف اللبنانيين في العاصمة وضواحيها، خصوصاً الضاحية الجنوبية، التي باتت خزاناً بشرياً حقيقياً بعد موجات الهجرة والتهجير التي عرفتها منذ ستينات القرن الفائت وبلغت الذروة مطلع الثمانينات والتسعينات لتحدث تغييراً ديموغرافياً هائلاً لم يعرفه لبنان. وتضم هذه الضاحية الجنوبية خمس بلديات هي الغبيري، والشياح، وحارة حريك، والمريجة وبرج البراجنة.
ورغم عدم دقة الاحصاءات السكانية التي واظبت على انجازها جهات غير رسمية فان الارقام تجمع على ان عدد سكان الضاحية يتجاوز النصف مليون نسمة، يعيشون على مساحة الـ20 كيلومتراً مربعاً ما يجعل منها اكثر المناطق كثافة سكانية. وتشير بعض الدراسات الى ان الاستقرار السكاني بدأ في هذه المنطقة منذ أوائل القرن الثامن عشر يوم وفدت إليها جماعات شيعية، تبعتها في ما بعد جماعات مسيحية (من الموارنة والأرثوذكس والروم الكاثوليك)، لتعمل في زراعة التوت وإنتاج شرانق الحرير وتربية المواشي، حسب قوانين الإقطاع في ذلك الزمان. لكن الامور اختلفت مع مرور الزمن، واضحت الضاحية الجنوبية احد معاقل الطائفة الشيعية الاساسية في لبنان اذ تجاوز عدد سكانها حالياً الثلاثة ارباع المليون وهذا العدد الضخم ينتج مشكلات جمة على مختلف الاصعدة.
تنطلق الاختصاصية في علم الاجتماع السياسي في الجامعة اللبنانية الدكتورة نعمت مكي من دور التهجير في زيادة عدد القاطنين في الضاحية الجنوبية لتستنتج أن ذلك "أضعف الروابط الاجتماعية ما بين السكان، رغم ان معظمهم حملوا معهم عاداتهم وتقاليدهم من الجنوب والبقاع وهي عادات تقوم على التواصل الاجتماعي".
لزيادة السكان تأثيرات اخرى في الضاحية الجنوبية، منها زيادة عدد العاطلين عن العمل، وما يخلقه ذلك من سلبيات تطال مختلف جوانب الحياة، في ظل ازمات اقتصادية مستعصية على الحل. من جهة ثانية لم يصر منذ سبعينات القرن الفائت الى تحديث البنى التحتية في الضاحية الجنوبية، وكميات المياه المخصصة للضاحية لم تتغير مذاك، رغم تضاعف عدد السكان، ما يدفع هؤلاء الى سد حاجاتهم المنزلية عبر شراء المياه المالحة غير الصالحة اصلا للاستخدام البشري. والامر ينسحب على شبكات الكهرباء ومجاري الصرف الصحي، وسط ارتفاع غير مسبوق في عدد المباني التي شيدت في الضاحية، خصوصا في التسعينات من القرن الفائت.

وتقضي الاشارة الى ان عملية الاعمار ترافقها فوضى لافتة تنعكس على مختلف نواحي الحياة، "فعدد المباني كان في زاروب متفرع من شارع الحجاج 10 في الشياح العام 2006 واصبح اليوم 15 ولم يجر ابدال محول الكهرباء المخصص للمباني العشرة، ولم يتم تبديل قساطل المياه"، وفق حسن منتش المقيم في منطقة الشياح منذ العام 1974.
صحيح ان في هذه تسمية "مجتمع الخارجين عن الدولة" ظلما لاهالي الضاحية الجنوبية، لكن الكباش السياسي حول سلاح المقاومة، ومحاولة تصفية الحسابات معها، عمما هذه التسمية وجعلاها لصيقة بابناء الضاحية الجنوبية، وساهم سلوك عدد من السكان في اضفاء "صفة المشروعية" على هذا التوصيف، وليس البناء غير المشروع الا احد اوجه النمط "الضاحيوي". وتساهم زيادة السكان وارتفاع اسعار العقارات في البناء غير المشروع، ففي حين يصعب على غالبية سكان الضاحية شراء منزل لا تتردد قلة في هذا السلوك الذي يظهرون فيه معاداتهم للدولة وسلطاتها كرد فعل على "القهر الاجتماعي".  

السابق
حين يتحدث المستقبل سرّاً
التالي
منصور إلى القاهرة للمشاركة في اجتماعات الجامعة العربية حول سوريا