جنبلاط لم يعد خائفاً من سوريا؟

كلما أعاد النائب وليد جنبلاط تركيب خياراته وخلط تحالفاته، سَرّ فريقاً وأغضب آخر. يريدونه معهم، وهو يريد أن يكون مع نفسه وطائفته وخوفه فقط. حملته الهواجس على مصالحة حزب الله وسوريا بكلفة وانحناءة باهظتين. يترك دمشق اليوم، وقد يترك الحزب، لكن بلا تخويف

أوحت المواقف التي أطلقها رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط الأحد (30 تشرين الأول) في الجمعية العمومية للحزب، بمقارنة خياراته الجديدة بتلك التي أعلنها في 2 آب 2009 على أثر الانتخابات النيابية. يومذاك، انتقل من قوى 14 آذار إلى مكان لا يزال إلى اليوم بلا هوية، إلا أنه بلا أعداء، محاط بحلفاء ومشككين ومتحفظين. في 30 تشرين الأول انتقل من هذا المكان الغامض إلى آخر قد يكون أدهى، يكثر فيه الخصوم والمتربّصون والشامتون. لم يخرج في ذلك الحين من قوى 14 آذار كي يدخل في قوى 8 آذار، ولم يغادر التحالف مع حزب الله وسوريا اليوم كي يعود إلى قوى 14 آذار.
امتحان الخيار الجديد وتوقيته، أن جنبلاط تخلّص من خوفه من سوريا الغارقة في أزمتها الدموية، وقد أصبحت هي الخائفة على نظامها. بيد أنه لم يتمكّن بعد من التخلّص من حزب الله الذي رسم له، منذ عام 2008، خطوطاً حمراً وسقوفاً لا يسع الزعيم الدرزي إلا أن يضع نفسه تحتها.
إلا أن مواقف الأحد، شأن ما اعتاد أن يفعله جنبلاط كأحد قلّة تصنع الحدث في لبنان، تفتح الباب على مسألتين مهمتين:
أولاهما، تأكيده مغادرته رئاسة حزبه لأول مرة، وتدشينه سابقة غير مألوفة في البيت الجنبلاطي، ولا في القسم الأوفر من الطائفة الدرزية الذي يدين بالولاء لهذا البيت وزعامته عليه، هو أنه يريد ـــــ بعد سنة ـــــ إجراء انتقال للسلطة منه إلى أحد ما، من دون قرن ذلك بالتوريث.
تبدو السابقة مزدوجة: كيف يتصوّر جنبلاط حزبه من دون بيته على رأسه؟ وكيف يتصوّر انتقالاً للسلطة على الحياة؟
سبقت زعامة البيت زعامة الحزب بثلاثة قرون على الأقل. كان كمال جنبلاط أول رئيس للحزب التقدّمي الاشتراكي ومؤسّسه ومعلمه. ولكن الزعامة الجنبلاطية، كصورة حتمية مكمّلة لزعامة الطائفة، ظلّت أكبر بكثير من رئاسة الحزب. لم يكن الحزب التقدّمي الاشتراكي عائلياً كأحزاب الكتائب والوطنيين الأحرار والكتلة الوطنية، وهو شأنهم حزب طائفة. ولم يتعرّف مرة إلى الطريقة التي اتبعها زعماء الأحزاب المارونية هذه وهم يُعدّون أبناءهم لخلافتهم على الحياة. بعضها انتقلت على الحياة كداني شمعون خلفاً للرئيس كميل شمعون عام 1985، وبعضها بالوفاة كريمون إده خلفاً للرئيس إميل إده عام 1949، والرئيس أمين الجميّل متأخراً أكثر من عقدين خلفاً لبيار الجميّل عام 2007.
مع البيت الجنبلاطي أمر آخر تماماً.
خلفت نظيرة جنبلاط في زعامة البيت زوجها فؤاد جنبلاط بعد اغتياله في 6 آب 1921. وخلف كمال جنبلاط في نيابة الشوف صهره حكمت جنبلاط على أثر وفاته عام 1943. وخلف جنبلاط الابن والدته في زعامة العائلة والطائفة بعد وفاتها في 27 آذار 1951. وخلف الحفيد وليد أباه كمال في البيت والطائفة والحزب على أثر اغتياله في 16 آذار 1977. لم يخلف أحدهم الآخر على الحياة. دخل الوارث إلى الزعامة في نعش المُورث. وعلى نحو لم يألفه تاريخ البيت، لمّح جنبلاط إلى رغبته من الآن وإلى تشرين الأول 2012، في تأمين انتقال للسلطة لا يجزم بأنه سيكون حكماً لنجله تيمور الذي قرّبه والده من علاقاته وتحالفاته وخياراته السياسية. صحبه إلى دمشق وإلى الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله.
قيل حينذاك إن الأب يريد توريث ابنه خيار المصالحة مع سوريا وحزب الله قبل رئاسة الحزب. قيل أيضاً إنه يريد منفرداً تحمّل وزر الأخطاء والتنازلات الكبيرة كي يكمل تيمور حقبة لم يصنعها هو.
لكن جنبلاط انقلب على نفسه مجدّداً وعلى حلفائه.
ثانيتهما، انتقاله من خيار إلى آخر. بعدما قرّر العودة إلى سوريا والاعتذار عن كل ما ساقه ضدها (2004 ـــــ 2009)، قرّر أن يعود منها وهو بالكاد صمد سنة. حتى 9 حزيران كان قد قصد سوريا 10 مرات التقى خلالها رئيسها بشّار الأسد 6 مرات، في آخرها كان قد تفاقمت المواجهة بين النظام ومعارضيه. تحدّث الأسد لجنبلاط في اجتماعهما الأخير عن خطته الإصلاحية وموقفه من المعارضة والهجمات المسلحة التي يتعرض لها الجيش والشرطة.
قبل أن يتحدّث الزعيم الدرزي بدوره، طلب من الأسد الأمان، كي يخوض معه بصراحة في ما يجري في سوريا. أعطاه الأمان، فسمع الأسد كل ما ينفّره. عندما عاد إلى بيروت، كانت انطباعات جنبلاط ممّا سمعه من الرئيس السوري بالغة السلبية:
ــ ليس الأسد جدّياً في الإصلاحات، وقد باتت بمضمونها أقل بكثير ممّا بلغته الأزمة السورية.
ــ لا مسلحين في سوريا، بل هناك معارضون مناضلون ضد العنف والقمع وكبت الحريات. ما يجري هناك ثورة شعبية.
ــ لا تزال مقاربة الأسد لتفاقم الأحداث متأخرة عمّا يقتضي استعجال إجرائه، تارة لأنه يعتقد أن ما يجري في سوريا مؤامرة، وطوراً لأنه يتمسّك بأولوية الحلّ الأمني على الحلّ السياسي.
ــ يصغي الأسد إلى المحيطين به، وبين هؤلاء من يتمسّك بالعنف والقمع لضرب المتظاهرين والمعارضة، ويتشبّث بالسلطة، ويتعلّق بحزب ـــــ هو حزب البعث ـــــ بات من الماضي.
منذ الزيارة الأخيرة لدمشق، أدرك جنبلاط أنه في مكان، والنظام السوري في مكان آخر. في الأسابيع الأخيرة التي سبقت التئام الجمعية العمومية رفع من وتيرة دعمه المعارضة، ودفاعه عن اللاجئين إلى لبنان، وهو يقترب أكثر فأكثر من إيصاد الأبواب بينه وبين دمشق. لم يعد يطلب موعداً لمقابلة الأسد لأنه لن يستقبله. ولم يذهب بعد 9 حزيران لمقابلة عرّابه لدى النظام، معاون نائب رئيس الجمهورية اللواء محمد ناصيف، وكان قد التقى به حتى ذلك الوقت 10 مرات. تولى ناصيف إدارة علاقة جنبلاط بالقيادة السورية، وهو يصغي إلى صنفين من الأقاويل من حوله تنقل إليه أو يسمعها في القيادة: فريق يدعوه إلى عدم الوثوق بجنبلاط؛ لأنه سينقلب مجدّداً على سوريا، وآخر جارى ناصيف في رأيه، وهو المحافظة على جنبلاط من ضمن التحالف العريض في قوى 8 آذار، نظراً إلى الحاجة إلى دوره في التوازنات الداخلية.
في آخر اجتماع جمعه بنصر الله في 13 تشرين الأول، كان التناقض واضحاً بينهما. ساق جنبلاط ملاحظاته حيال المرحلة المقبلة، ومنها:
ـــــ يفصل علاقته بحزب الله عن علاقته بسوريا. وهو إذ يبتعد عن دمشق لا يريد الخلاف مع حزب الله ولا نزاعاً مع الشيعة، ملمحاً إلى التفكير بتسوية داخلية تأخذ في الاعتبار ما ينتظر النظام السوري، وتنأى بلبنان عن التأثر بتداعيات سقوطه.
ـــــ نصح الحزب بعدم الرهان على بقاء الأسد؛ لأنه آيل إلى السقوط، وإن صمد بعض الوقت. لكنه سينهار حتماً، وربما خلال شهرين.
ـــــ لا يسعه حيال تصاعد تطورات المنطقة وأخصّها «الربيع العربي» إلا أن يكون إلى جانب ثورات الشعوب للتخلّص من الأنظمة الديكتاتورية وتثبيت الديموقراطيات.  

السابق
هل ستعالج معوقات الصادرات الزراعية؟
التالي
الاهتمام بسوريّة