إزدياد الثروة يؤدّي الى الحكم الاستبدادي

في كتاب "المدينة الاغريقية" الذي يُترجم الى العربية للمرّة الاولى، يستعرض مؤرّخ فرنسي شروق الديموقراطية اليونانية وغروبها، إذ إنها مورست على نطاق جماهيري واسع قبل أن تستنفد التجربة أغراضها ويتمّ احتكار السلطة.

ويقول غوستاف غلوتز (1862-1935) إنّ "الطبقة العاملة" التي حُرمت حقّ الممارسة السياسية تحوّلت الى جيش للتمرّد ينتظر "رؤساء"، وبدأ عصر الثورات والثورات المضادة، الى أن جاء الغزو المقدوني ثم الغزو الروماني لليونان التي تصارعت مدنها وعجزت عن الاتحاد.

والكتاب الذي نُشر للمرّة الاولى بالفرنسية عام 1928، ترجمه الى العربية الناقد المصري الدكتور محمد مندور (1907-1965) الملقّب بشيخ النقّاد العرب المحدثين، وصدر في سلسلة (ميراث الترجمة) عن المركز القومي للترجمة في القاهرة. ويقع في 466 صفحة كبيرة القطع. ويقول المؤرخ هنري بير في مقدّمة كتاب (المدينة الاغريقية) إنّ اليونان "حققت للشخصية البشرية نموّا لا مثيل له.

وفي مقابل البربري الذي يخضع للاستبداد ويؤلّهه، نرى الاغريقي مواطنا حرّا… وفي المدينة الاغريقية من الاعجاز مثل ما في فنّ الاغريق وفلسفتهم. لقد كوّنت تلك المدينة تجربة للبشرية. كوّنت مثلا وأنموذجا خالدا على وجه الدهر.

وأضاف أن أثينا حققت تحوّلا عميقا للعناصر الدينية وجعلتها عناصر عقلية بَحتة، أما الفلسفة والسلطة الدينية فاتّحدتا لدرجة يكاد معها الفلاسفة أن يصبحوا ملوكا والملوك فلاسفة خيّرين.

ويُسجّل أن أثينا تُعدّ "مدرسة الانسانية جمعاء، لا مدرسة اليونان فحسب"، وأن الشعب "كان مجموعة أعضاء المدينة لا مجموعة سكّانها"، حيث يُستعبد الأرقّاء والاجانب، وأن الديموقراطية ازدهرت بفضل تحرير الفرد الذي يَهبُ المدينة من القوّة بقدر ما تهبه من الحرية، ويربط بين النموّ السياسي وازدياد الثروة وتكوين طبقة زعماء الشعب وأرستقراطية المال أو ما يسمّى الرأسمالية. ولكن غلوتز مؤلّف الكتاب يختلف عن حماسة هنري بير للديموقراطية اليونانية، فيما يخصّ مفهوم المواطنة أو تراكم الثراء الذي يؤدّي الى الاستبداد. فيقول غلوتز في فصل عنوانه (النظام الاستبدادي) إنّ أرسطو (384- 322 قبل الميلاد) رأى بفطنته المألوفة أن ازدياد الثروة قد كان السبب الاساسي في ظهور الحكم الاستبدادي، ويضيف المؤلف أن الحكّام المستبدّين، وخصوصا الذين تركوا أثرا في التاريخ، كانوا من كبار البُناة لأنهم يوحون الى الشعب بعزّة قومية تنسيهم حريتهم المسلوبة. وكانت هباتهم السخيّة تجلبُ اليهم من كل فج المعماريين والنحّاتين والشعراء، ويحرصون على تنظيم مسابقات غنائية ومسرحية. ويشرح مفهوم الديموقراطية الاغريقية قائلا: "إنّ الملك لم يكن يستطيع أن يقرّر شيئا بغير رؤساء الجماعات في المدينة، وهم يمثّلون مجلس الشيوخ والى جانبهم كان رأي الشعب أو العامّة يؤخذ في الحسبان، إذ إنهم يجتمعون في "الاجورا" (الساحة العامة)، وهي تمثّل الجمعية العامة التي تضمّ جميع مواطني المدينة والمحاربين.

ويوضح أن "الاجورا" في تلك المدن كانت مغلقة أمام الفلّاحين والبسطاء ورجال المهن، وان امتياز "المواطنين" كان ينحصر في حق حضور "جمعية عامّة عاجزة. وأمّا حقيقة السلطة، فكانت مستقرّة في مجلس ضيّق"، حيث كانت العشائر الكبيرة تحتكر السلطة، وكان الصنّاع والفلاحون الذين لا يكادون يتميّزون عن الرقيق، لا يشعرون بأي أمل في إمكان الإصلاح، وكان دهاء الفلّاح يجعله ينجب ابنا واحدا حتى لا يتجزّأ ماله القليل، ولكي لا يترك أسرة من البؤساء".  

السابق
التحكم بهواتف آي فون والآي باد بطريقة مختلفة
التالي
ساطع نور الدين : يستحيل التنبؤ بالزلازل لذا لا يمكن التهديد بها