سيّد بكركي.. والمزايا العشر

هو لبنان، بلد التنوّع «الطائفي» الذي يجب أن يكون مصدرَ غنىً لا مصدر أزمات، ومصدر تلاقٍ فَوِحدةٍ لا تنافر ففُرْقة، هو لبنان المحتاج في كل الظروف إلى من يجمع لا إلى من يفرّق، هو في حاجة لمن يقفز به إلى الأمام المُواكِب للتطور، لا إلى من يعيده إلى دياجير الجاهلية، هذا الـ«لبنان» التوّاق دائماً إلى من يمدّ يده لا إلى من يحجبها.
«محمديّو» لبنان قبل «مسيحييه» كانوا ولا يزالون في حاجة إلى من يقرّب بينهم، يتحدّث باسمهم كلاً مجموعاً لا طوائف مُمَذهَبة ومتقوقعة خلف متاريس صنعتها «مرجعيات» سياسية وحزبية لا يمكن أن تعيش أو تنمو إلا على منطق «فرّق تسد». حُلْمُ اللبنانيين قبلاً وحالياً وفي المستقبل أن يكون لهم وطن يَحيَون فيه معاً بكرامةٍ وبعزّةٍ واطمئنانٍ، وجزءٌ من هذا الحلم يكمن في إيجاد المبادِرِ إلى «لقيا» اللبنانيين.
هو البطريرك بشارة بطرس الراعي، ربما يكون التاريخ الحديث قد أظهر للبنانيين انه اسمٌ على مسمى، ربما يكون بِشارَةً لهم، بشارةً بلقاءٍ قريب حول مصلحة واحدة هي مصلحة الوطن. لكن ما ظهر للبنانيين منذ انتخابه بطريركاً على انطاكيا وسائر المشرق، أنه فعلاً راعٍ يحضن الجميع، ويحتويهم في كنفه المترفّع عن أية صغيرة.
مزايا كثيرة عرفها اللبنانيون عن البطريرك الراعي بُعَيْدَ انتخابه، ومزايا كثيرة اكتشفوها وخَبِروها لا بل واقتنعوا بها، ويمكن اختصار تلك المزايا بإحدى عشرة.
 
المزيّة الأولى: أسلوبٌ مغايرٌ، في الزيارات، عن الآخرين، يؤكد فيه على أن لبنان دولة وطنية لا دولة «دينية»، ويردّ أيضاً على المنادين بدولة تابعةٍ خانعة للصهاينة، كما يريدها حكّام «إسرائيل» ومن يواليها.
الثانية: إيمانه العميق في أن الانتشار المسيحي هو واقعُ ينسحب على كلّ الأراضي اللبنانية، وليس محصوراً فقط بين «المدفون» و«كفرشيما».
الثالثة: إيمانه الأعمق بحلّ المشكلة اللبنانية عن طريق وضع الإصبع على الجرح، أي التعرّف عن كثب على تلك المشكلة لمعالجة أسباب الانقسام اللبناني، لا النظر فقط في النتائج.
الرابعة: انه بطريرك لا يبحث عن زعامة، ولا عن جاهٍ وزوارٍ جلّ هدفهم من زيارته «استغلال» منبر بكركي لإطلاق مواقف لهم، وتقاذف اتهامات في ما بينهم، بل يبحث عن سلامة لبنان ووحدة أراضيه وشعبه.
الخامسة: التأكيد على أن تاريخ الكنيسة هو تاريخٌ جهاديٌّ من أجل العدالة، من هنا جاءت تحيته في بلدة قانا الجليل إلى كلّ الشهداء وكلّ الاستشهاديين.
السادسة: انه يدعو اللبنانيين إلى التماسك والانصهار، لا إلى التفرقة، فقد تجاوز كل الحسابات الخاصة لما يجري في المنطقة، ليبقى لبنان عزيزاً سليماً في وحدته. وهو من الشخصيات القليلة، الأكثر جرأةً بين القيادات الدينية والسياسية.
السابعة: انه لا يسعى فقط إلى حفظ الوجود المسيحي، بل إلى الوجود اللبناني بمسيحييه ومحمدييه، وهو يؤكّد أن المسيحية انفتاحٌ لا انغلاق أو انعزال، كما كان يصوّرها البعض ممن أعطوا فكرة خاطئة عنها، عندما هَجّروا الناس ودَمّروا البيوت والمصانع والفنادق.

الثامنة: انه يريد دولةً قويةً عادلةً تحمي لبنان من كل اعتداء «إسرائيلي» (حيث لم يكتفِ فقط بالصلاة). وإذا كان كلامه عن المقاومة قد أزعج البعض وانتقده فيه، فنقول ان هذا الكلام قد جاء بناءً على إيمانه بأن الدولة بجيشها وحده غير قادرة على ذلك، وإن الدول التي تسلّح الجيش اللبناني، ترفض تزويده بالأسلحة التي تمكّنه من الدفاع عن لبنان، ولو كان جيشنا من الأساس مسلّحاً بالشكل المطلوب كي يقف في وجه أي اعتداء «إسرائيلي»، لما كان هناك من حاجة في الأساس إلى حراكٍ مقاوِمٍ يحمي لبنان.
التاسعة: انه يؤكد في حراكه السريع الذي استطاع خلاله أن ينفّذ شعاره «شركة ومحبة» في مهلة قصيرة جداً، أن منصب «الغبطة» ليس للمسيحيين فقط، بل هو لكل لبنان، لا بل انه لانطاكيا وسائر المشرق، وهو هنا يستحق الشعار المعروف: «مجد لبنان أعطي له».

العاشرة: «انه صاحب ثقافة عالية واطلاع واسع، يعرف ما يجري في المنطقة، ويدرك كيفية القراءة بين السطور، وما يُخَبّأ للمنطقة ولبنان، فجاء حراكه سريعاً،
منطلقاً من تلك الثقافة وذلك الاطلاع، معتمداً القراءة بين السطور وتوجس ما قد يحصل، بالمقارنة والمقاربة، فوثب إلى قلب المشكلة، معلناً الحرب على طريقته ضدّ ما يؤجج تلك المشكلة، فوحّد اللبنانيين ودعاهم إلى خطة الـ«شراكة والمحبة».
هذا غيضٌ من فيضٌ يميّز بطريرك اللبنانيين والمشرقيين، فحبذا لو يقرأ كل اللبنانيين ما يقوم به، ويتعظوا من توثبه إلى الوطنية، حبذا لو يقرأون بشفافية ما يقوم به، لتوّجوه حكماً وبطلاً قومياً لبنانياً، لا بطريركاً فقط.
ومع مرور الأيام، وتوالي الأحداث في لبنان والعالم العربي، يتضح جلياً أن هواجس البطريرك الراعي في مكانها، وعلى اللبنانيين ألا يلوموه، لأنه يعمل من أجل لبنان بمسيحييه ومحمدييه.

هي دعوة للبنانيين كمواطنين لمسوا مزاياه، وسياسيين تلقفوا مبادراته، أما من انتقدوه، وحاربوه، واستعجلوا وضع العصيّ في الدواليب، والحجارة في الدروب، والفخاخ في الطريق، فهم أثبتوا علناً وللمرة الألف، انهم غواة مناصب وكراس وأمجاد بنوها على أرواح الناس ودمائهم، وثروات اكتسبوها بفعل الفتن والحروب الطائفية والمذهبية، وحواجز الذبح على الهوية، واغتيال الرؤساء والقياديين، والفتك بالجيش الوطني، والعمل على تقسيمه وشرذمته ألويةً وكتائب تخص كل منها طائفة، والتعامل المباشر والصريح والوقح مع العدو الصهيوني، وما محاربتهم للبطريرك الراعي إلا مخافة أن يفقدوا ما اكتسبوه، وأن يستعجل التاريخ حكمه عليهم.

ولا شكّ أن لقاء «سيدة الجبل» الهادف إلى الاعتراض على نهج الراعي خير دليل على تحرك هذا البعض الممتعض من ثورة بكركي على «مأزومة» لبنان، فذهبوا إلى الفندق حيث لم ترض أي كنيسة ولا حتى دير استقبالهم، لكن البارز، لا بل المضحك المبكي، أن هؤلاء استقدموا أسماء مغمورة في السياسة، كخطوة اصطفاف جديد، بعدما ذهلوا بالاجماع الشعبي اللبناني الذي حظي به البطريرك الراعي، ظناً منهم أن «كثرة» الأسماء تعني ضخامة الجبهة المضادة، لكنهم نسوا أن اللبنانيين، وكلما قرأوا اسماً، أو شاهدوا «وجهاً» عبر التلفاز، يتساءلون من هذا ومن ذاك؟
بين البطريرك الراعي ومزاياه، المنتقل بالمسيحيين إلى دورهم المشرقي الطبيعي من جهة، ومنتقديه ممن يريدون المضي بالمسيحيين إلى الهاوية من جهة ثانية، يبقى التاريخ جاثماً مراقباً، فثمة من سيكتب اسمه بحروف وطنية من ذهب، وآخرون ينتظرهم مصيرٌ لائقٌ بما فعلوا واقترفوا.. والتاريخ خير شهيد. 

السابق
وزير مريض !!
التالي
السفير: المـبادرة العربيـة أمـام التحـدي غـداً رسـالة عاجلـة إلـى دمشـق لحمايـة المدنيـين