السقوط الأخلاقي للغرب

أبدى الغرب ولا يزال اهتماماً كبيراً بالثقافات الغريبة عنه بطريقة منظمة وهادفة. وقد تجلى هذا الاهتمام بالدراسات الاستشراقية الباكرة، قبل الاستعمار المباشر وخلاله وبعده. أنشأ المؤسسات والمراكز البحثية الكبيرة المخصصة لذلك، ورصد موازنات كبيرة لتحقيق تلك الأغراض.
تضاعف اهتمام الغرب بثقافات الشعوب وتفاصيل شؤونها وأوضاعها الداخلية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. فقد ساهم هذا السقوط في تفرّد أميركا بالهيمنة على العالم وفي تربّعها على عرش النظام الدولي وتحكمها في مؤسساته وأجهزته المتنوعة. ومنذ ذلك الحين رفعت أميركا شعارات محاربة الإرهاب وشعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان، ودعت الى تطبيق العدالة الدولية على غيرها وفق معايير انتقائية من خلال المؤسسات الدولية التي تهيمن عليها. وأعطت نفسها حق التدخل بشكل مباشر لتطبيق تلك الشعارات وفق الرؤية التي تطرحها وتناسبها. وانساق مع أميركا حلفها الأطلسي وبعض الدول العربية، إضافة الى بعض التيارات والأحزاب والشخصيات السياسية.
لا بد لأي عاقل من أن يتساءل: ما هي دوافع هذا الاهتمام؟ وما هي الخلفيات الحقيقية الكامنة خلف الشعارات الجميلة؟ وهل ثمّة صدقية في ادعاء الموضوعية والفضول العلمي، في البحث عن الآخر ومعرفته؟ ما هي الدوافع للاهتمام الظاهر بحرية الشعوب وتطوير أنظمتها وتحقيق العدالة لها؟ وما هي دوافع بعض القوى العربية التي تسير خلف الأميركي وتعمل على تنفيذ سياساته واملاءاته؟
يقول المفكّر الفلسطيني ادوارد سعيد :" الاهتمام الأوروبي بالثقافات الأجنبية كان نتيجة للتجارة، أو للغزو أو للمصادفة. فالاهتمام ينبع من الحاجة، والحاجة تستند الى عوامل تستثيرها دوافع عملية تعمل وتعيش مع بعضها البعض – مثل الخوف، والشهية، وحب الاستطلاع وما الى ذلك بسبيل – وهي التي دائما ما كانت تمارس تأثيرها حيثما وأينما يعيش البشر". (إدوارد سعيد – تغطية الإسلام – ترجمة محمد عناني –رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة 2006 – ص281) اهتمامات الغرب تفسّر من خلال مصالحه ومنظومة قيمه. حين نتحدث عن قيم الغرب، نعني بذلك القيم التي تجسدها الطبقات المسيطرة والمقررة لسياسات الدول، ونعترف بوجود قيم أخرى مناهضة لتلك القيم وتجسدها القوى الاجتماعية والسياسية والثقافية المناهضة لتلك السياسات.
تتمثّل القيم الغربية في النزعة العنصرية والاستعلائية تجاه الشعوب كافة، كذلك في القيم المادية والنفعية وسيطرة النزعة الفردية من دون أي ضوابط اجتماعية وأخلاقية، وهي تعكس بشكل كبير النظرة اليهودية في التوراة والتلمود.
الجرائم والمجازر وعمليات الابادة التي ارتكبها الغرب منذ اكتشاف أميركا، ولا يزال يرتكبها حتى اليوم، لا تفسّر بعامل الدفاع عن النفس ولا بعامل الخوف من الآخر. انها تفسر بالنزعة العنصرية الاستعلائية التي يعتبر من خلالها أنه وحده الجدير بالحياة، أما بقاء أي شعب آخر على قيد الحياة، فيتحدّد على ضوء الحاجة الى خدماته، مثلما تتحدد الحاجة الى الحيوانات.   
نفّذ الغرب جرائم وحشية في تعامله مع الخارج، ولم يكن تعامله مع الداخل أقل وحشية، كما تشهد الثورات والحروب الأهلية بذلك.
ان الاستقرار الداخلي الذي حققته الدول الغربية لم يكن سببه الأنظمة الديمقراطية الحديثة فحسب، حيث يتمّ تداول السلطة ضمن الطبقة المسيطرة وحدها، بل سببه نهب ثروات الشعوب ونهب خيراتها، ما انعكس ايجابا في تحسين وضعية الطبقات الاجتماعية الدنيا.
نلمس النزعة العنصرية الاستعلائية تجاه الخارج بشكل واضح، وهي موجودة على مستوى الداخل، خاصة بين الطبقة المسيطرة وسائر مكوّنات المجتمع. والى هذه النزعة هناك سيطرة لقيم اللذة والمنفعة من غير ضوابط او روادع أخلاقية، فقد تراجعت الضوابط بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتصاعد الليبرالية المتوحشة الهادفة الى الغاء مفهوم دولة الحماية والرعاية والساعية الى خصخصة غير محدودة. وثمّة اعلاء كبير من شأن الفرد وتأليه الفردانية من دون إيلاء الاهتمام الكافي للبعد الاجتماعي، ما يضع الضعيف تحت رحمة القوي واستبداده.
ليس هناك شعب مختار ولا جنس مختار إلا في عقول المرضى والمجانين والمهووسين. أي شعب تتوافر له الامكانات والظرف الملائمة قادر على العطاء والإبداع. والحضارة الإنسانية هي نتاج مشترك لمعظم شعوب الأرض. ان الحق في الحياة الحرّة الكريمة هو حق لجميع الشعوب وليس حقاً لشعب دون آخر.
كل الشعوب لها مصالحها، ثمّة مصالح للغرب ولأميركا كما لسائر شعوب العالم. لكن سياسة أميركا والغرب لا تقيم أي اعتبار لمصالح الشعوب ولحقها في الحياة. فلا توازن بين مصالح الغرب ومصالح الشعوب الأخرى، كما لا توازن بين مصالح الطبقة المسيطرة داخل أي مجتمع غربي وسائر فئاته ومكوّناته الاجتماعية.
النتيجة المنطقية لسياسة أميركا وامتدادها في الغرب الأوروبي وفي الكيان الصهيوني هي دمار المجتمع ودمار البيئة ودمار الانسان.
الأزمات المالية للغرب قد تدفع النظام الإمبريالي المتوحش الى مزيد من المغامرات اللاعقلانية عسى تنقذ مجتمعاتها من أزماتها المالية التي هي وليدة نظامها الإمبريالي الفاسد والساقط أخلاقيا. لكن هذه المغامرات ستزيد من أزماتها وستعجّل في سقوطها وانهيارها.
إن تحرر الشعوب من الهيمنة الإمبريالية يساهم ليس في تحريرها فحسب بل في تحرير شعوب الغرب أيضا من أنظمته اللاانسانية واللاأخلاقية، الساعية بحماقة الى تدمير الانسان وبيئته وتدميرالعالم. إن تزايد السقوط الأخلاقي للغرب هو مقدمة لسقوط نظامه السياسي المتوحش.
جاء في حكمة أحيقار وزير الملك الأشوري سنحاريب الذي أخذ عنه الكثير من الأمثال الواردة في التوراة :
"اذا اردت ان ترتفع فتواضع امام الله الذي يخفض المرتفع ويرفع المتواضع" (انيس فريحة – أحيقار – منشورات جامعة بيروت الأميركية –بيروت 1962- ص26). "قبل الكسر الكبرياء وقبل السقوط تشامخ الروح" أمثال 18:16. 

السابق
ممنوع الزواج بفلول النظام
التالي
الاخبار: لا لقاء بين الأسد ونصر الله