مصير الجمهورية الإلهية على كف عفريت

عندما قامت الثورة بتونس اعتبر آية الله علي خامنئي انها مستوحاة من روح الثورة الإسلامية في إيران, وليس طبعاً من الثورة الخضراء للشعب الإيراني. هذا مع العلم أن الثورة الخضراء كانت السباقة في تاريخ الثورات في المشرق العربي, أو ما بات يسمى الربيع العربي. وعندما قامت الثورة في مصر حاول الخامنئي تجاهلها بل التحايل عليها, فلم يصرح علانية من انزعاجه منها. ولكن راحت الأجهزة الاستخباراتية الإيرانية تعمل ليلا ونهاراً, على دك أسس هذه الثورة, عبر محاولة زرع بذور الشقاق المذهبي في الداخل المصري, وبوسائل ليست بعيدة عن تلك التي استعملتها خلايا "حزب الله" في السابق في سيناء, خلال السنة المنصرمة, ما يحمل على الظن ان النظام الإيراني كان يستشعر ويتحسس قدوم هكذا انتفاضة شعبية, فسعى إلى طمرها بالمهد قبل اندلاعها, وقبل أن تتحول نموذجاً يُحتذى به على الصعيد العربي. فكانت في بداية الثورة المصرية, محاولات الانقضاض على كنائس الأقباط, وعندما لم تتطور هذه الأحداث الطائفية بشكل أكثر دراماتيكية, يشي بانهيار عناصر التضامن الشعبي, أو يؤسس لشل الدفع الثوروي وإحباطه, كان لا بد من وسائل أخرى, فرأينا حادثة التعدي على السفارة الإسرائيلية في القاهرة, لإعادة تعويم شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة مع العدو الصهيوني", تلتها حركة الاستفزاز على الحدود مع إسرائيل في منطقة إيلات في العريش, والتي ذهب ضحيتها حينها عدد من الجنود المصريين.

إن الأمر الذي بات واقعاً وخارج الجدل حالياً, هو أن الثورات العربية باتت تشكل مصدر قلق وانزعاج للجمهورية الإسلامية, بل وأكثر من ذلك تهديداً مباشراً لاستمرارها. فكل تحرك ديمقراطي اين ما وجد في أي منطقة من الشرق الأوسط, يمكنه أن يتحول عدوى مهلكة قد تطاول الداخل الإيراني, وهذا ما تسعى إيران إلى صده, وإلى محاربته, وتدارك تداعياته بشتى الوسائل, قبل فوات الأوان. ولكن السؤال يبقى إلى متى يمكن للنظام مجابهة هذه الرياح التغييرية, وإلى متى يمكنه صد دفع التسونامي الديمقراطي الذي يعصف بالبلاد العربية المجاورة? أما وقد طاول إسرائيل من قبل, وهي أي إسرائيل من الرياح العربية بالأساس محصنة وبراء؟
 
وعدا عن التخوف بخصوص تأثير هذه الرياح التغييرية على الداخل, يقوم التخوف الإيراني على واقع لا مفر منه, وهو من تنامي العوائق والحواجز والسدود أمام تمدد هيمنتها وأمام استكمال مشروعها التوسعي التقليدي, والذي طالما ركزت وسعت إيران بكل ما أوتي قادتها من حنكة وحيلة, على نسج خيوطه العنكبوتية عبر البلدان الشرق أوسطية قاطبة, بهدف تمتين أواصر الجمهورية الإسلامية في الداخل.
والواقع الذي بدأ يتبلور بشكل مقلق أمام إدراك النظام الإيراني, هو ناتج عن تراجع في النبض الشعب العربي, وانكفائه, بل وحتى تعنته حيال الاستمرار في الانصياع للاصطفاف الأعمى وراء شعارات كانت تستعملها إيران في السابق للتجييش ومنها "لا صوت يعلو فوق صوت مناهضة العدو الإسرائيلي" أو حول ضرورة إسقاط اللعنة على "الشيطان الأكبر".

أدركت طهران ان الثورات العربية هي بصدد إنهاء دورها وتأثيرها, والتي تمكنت من فرضه عنوة على العالم العربي, عبر البوابة العراقية, بعد السقوط المدوي للعراق نتيجة الغزو الأميركي الغاشم. أدركت إيران ان مشروعها بات مهدداً بالانهيار, بعد أن كفرت الشعوب بالشعارات الفارغة, ناهيك عن أن الشعوب المنتفضة باتت ترفض أن ينوب عنها لا النظام القائم, ولا حتى النظام الأبعد. يبقى أن الخطورة الأهم بالنسبة الى الجمهورية الإسلامية ليست في الارتدادات السلبية "ل¯ الربيع العربي" عليها, بقدر ما هو متأت من احتمال تفكك وانهيار العديد من أذرعها وأنشطتها الخارجية والتي تشكل بالفعل المرتكز الأساسي لسياستها الداخلية, كما هي الحال بالنسبة إلى كل الأنظمة الديكتاتورية. أن في احتمال انهيار النظام السوري, تكمن الطامة الكبرى, كونه الجسر الأساسي لامتدادها الخارجي, ولأن انهياره سوف يجر وراءه انهيارات أخرى لباقي الأذرع ك¯ "حزب الله" في لبنان مثلاً, و"حماس" في غزة, وحزب "الدعوة" ونوري المالكي في العراق, والحوثيين في اليمن, والتيارات الشيعية المتشددة في البحرين, وفي شرق السعودية, كما يشكل التهديد الحقيقي الفعلي لمتانة النظام وقوته الفعلية.

لذا نرى اليوم أن كل مساعي الجمهورية الإسلامية, منكبة بطريقة أو بأخرى, على الالتفاف على هكذا سقوط مدوٍ وذلك عن طريق محاولة اختراق التيارات الأصولية السنية, كونها تظهر حالياً وكأنها المنتصرة الأولى بعد الثورات العربية. تحاول طهران اختراقها, أولاً بهدف دفعها نحو المزيد من الأصولية والتشدد, الذي يصب في مصلحة تبرير وتبييض تشددها الشيعي من ناحية, وثانيا ترى أنها بهذه الطريقة يمكنها إعادة إنتاج الأصوليات على أنواعها, بعد الضربة القاصمة التي تلقتها الأصولية السنية نتيجة مقتل زعيمها أسامة بن لادن. والآن تحاول إيران التقرب والتملق للإخوان المسلمين في تونس وليبيا ومصر, وحساباتها الحالية تقوم على ستراتيجية, هي أن ما يمكن أن تخسره على صعيد بتر وانهيار بعض أذرعها, يمكنها الاستعاضة عنه بطريقة غير مباشرة في استعادة سلطتها وقدرتها على التأثير في الداخل العربي, عبر إيصال التشدد السني إلى سدة السلطة بعد نجاح الثورة.

من دون أن يعني ذلك ان هذا التقرب وهذه الممالقة للتنظيمات والأصولية السنية, قد يؤدي للتقارب مع المملكة العربية السعودية معقل الإسلام السني والراعية الأولية له, على العكس من ذلك تماماً, فالمملكة العربية السعودية, تظل العدو والمنافس الأول والأخير لطهران. فهمت إيران جيدا اين عقر المنافسة الحقيقية, وأدركت أنها والحال هذه أي في استمرار حركات التحرر, لا بد لها من ضرب المرجع الأول والأخير للسلام السني في العالم العربي. وها هي اليوم تشن حرباً شعواء على المملكة, وعلى جبهات مختلفة, بدأت باستهداف السفارة السعودية بأستراليا, تلتها أحداث البحرين, ومن ثم التحركات الأمنية في "العوامية" شرق السعودية, ومنذ مدة عبر محاولة اغتيال السفير السعودي في واشنطن.

في الحقيقة طهران أعلنت الحرب ليس فقط على المملكة ولكن أيضاً على الولايات المتحدة عن طريق تهديدها لأمنها في عقر دارها, وربما لن تنجو من فعلتها هذه, والأرجح أن يعتبر المجتمع الدولي محاولتها الأخيرة تعدياً من دولة على أخرى, ما يهدد الأمن والسلام الدوليين, ما سوف يستدعي تدخلاً عسكرياً ما, لوضع هذه الدولة المارقة عند حدودها. فالتحركات البحرية للأساطيل الأميركية في منطقة المتوسط والخليج باتت ظاهرة ومرصودة, والأهم غير مسبوقة. وآخرها مغادرة حاملة الطائرات "يو أس أس جون ستينيس" الخليج العربي متجهة للبحر الأبيض المتوسط. ولقد عبر عن خطورة الأوضاع العسكرية الطارئة في منطقة الشرق الأوسط نتيجة العملية الأخيرة لإيران, وزير الخارجية البريطاني وليام هيغ خلال زيارته الخاصة للرباط بقوله "بأن ما حدث خطير جداً ونحن ندينه تماما كما الولايات المتحدة…". وأضاف ما "أُعلن عن كشفه من ملابسات ومن تفاصيل, بخصوص هذه المحاولة, هو أمر يثير قلقنا ونحن في تشاور مع الولايات المتحدة حول الخطوات المقبلة". فهل هذه "الخطوات المقبلة" تعني حرباً أميركية أوروبية مشتركة على إيران؟ أم سوف تختار إدارة أوباما ترك الملف الإيراني حتى يستوي وينهار من تلقاء نفسه بعد سقوط أذرعه نتيجة انهيار النظام الحليف الأساسي في سورية؟ 

السابق
اللواء: سليمان على رأس وفد جامع و14 آذار تلاقي الحريري بالرياض
التالي
معضلة..