لعبة الشطرنج بين واشنطن ودمشق

تكتب الشعوب الحرة تاريخها بالدم. أما القوى الغاشمة فتكتبه بالسيوف الصدئة وبالزّنجار. لكن المعادلة القائمة لم تعد قيمية مثالية أو رومنسية بل غدت قيماً معززة بالقوة المادية والنفسية، بالارادة، والقرار، والقدرة والجهوزية. هكذا أمكن للدم أن ينتصر على السيف، لا بالرغبة والحلم فقط بل بالرؤية الاستشرافية والحكمة السياسية والقيادية.
هذا في الطرح العام. أما الأمر الأكثر تحديداً اليوم، فهو عدم اكتفاء الولايات المتحدة الأميركية بأخلاقياتها المأزومة حتى الافلاس، ولا بالفشل المدوّي لمشروعها الحربي الاستباقي على لبنان والعراق وأفغانستان. لذلك استعادت السيناريو المقيت مع سورية التي نسيت واشنطن أو تناست أن الدولة التي شنت عليها مؤامرة إرهابية تفتيتية تستجيب لأمنيات "إسرائيلية" ولو تلوّنت بعباءات عربية، هي دولة الصمود الأسطوري، من ميسلون البطولة إلى الثورة الكبرى، من القائد الممانع حافظ الأسد إلى الرئيس المقاوم بشار الأسد، من عاصمة للأمويين إلى عرين للأُباة، السراة، الكرام، الأعزّاء.

ربما غاب عن بال الادارة الأميركية أن سورية مهد الحضارة، ومصهر الاجتماع، ومنهل العلم، ومهبط الأديان… بل ربما سها عن ذاكرة صقورها أن ذراعها لا تُلوى وسجِلّ وقفاتها لا يُطوى. ولولا البال الشارد رغم التخطيط، والذاكرة الساهية رغم الحضور الانتقامي، لما لعبت واشنطن مع دمشق لعبة شدّ الحبال بل لعبة الشطرنج في سحب السفير الأميركي فورد ومن ثم تعديل صيغة السحب إلى واقع الاستدعاء التشاوري. هذا السفير الذي لم تعمد دمشق إلى طرده بعد انتهاكاته المتعددة للأصول الدبلوماسية، وإيغاله المتعمد في الشأن الداخلي لدولة ذات سيادة تمهل ولا تهمل، تستبين ولا تستكين، تحمي السفير المتطاول على القانون الدولي، بموجبات هذا القانون، رغم السخط الشعبي العارم الذي يجد ترجمته العفوية أحياناً برشق السفير المتذاكي بالبندورة أو بمستحقاته الأخرى من الرشقات.
أما السفير السوري في العاصمة الأميركية فاستُدعي من إدارته منذ اللحظة الأولى، استدعاء ندّياً وذكياً، للتشاور والتحاور… هكذا يسلك العقل السياسي السوري مسلك الرصانة، في حين يتخبط العقل السياسي الأميركي بعقدة التفوق بل بمسلسل الأفشال.
لقد قطعت القيادة السورية الشوط الأكبر في الإمساك بخيوط "الحرب الكونية" التي تُشَنّ عليها، وها هي تستعيد الاستقرار العام ليستتبّ لها تنفيذ الخطوات الإصلاحية التي يرنو إليها الشعب على قاعدة القرار الداخلي المستقل الرافض تدخلات الخارج وإملاءاته الخبيثة.
في سورية فارس يلعب الشطرنج جيداً، وهذه اللعبة في الأصل، هي لعبة الأذكياء الذين لا تستقيم مقارعتهم إلا بمعدن الفرسان، ذوي الفَرَسِ التي تكاد تصهل في أكُفّهم دونما انقطاع.   

السابق
علاقة بين المشروبات الغازية وعنف المراهقين
التالي
رباط حذاء من الذهب بـ19 ألف دولار فقطّ