حركة النهضة والنتائج الأولية للانتخابات التونسية

 تشير النتائج الأولية إلى تقدم "النهضة" التونسية على غيرها من القوى السياسية المشاركة. وهذا يعني عدة أمور:
أولها: فشل مشروع بن علي الفكري والسياسي، هذا إن كان بالفعل قد كان له مشروع يطرحه، فقد حكم بعقلية وقبضة "الأمن" المستنسخة لفترة العقود من الخمسينيات وحتى السبيعينيات، يوم كانت الشعارات هي التي تحكم وليس الأفعال.
ثانيها: أن الإسلام الذي ينتمي إليه التونسيون ليس ديناً عابراً يشكل المظاهر التعبدية، ويلجأون إليه وإلى "معابده" عند الحاجة، وإنما هو انتماء يشكل الضمير الحي الذي يوجه الشعب التونسي، كما يشكل ثقافته وأعرافه وآماله وأحلامه عندما تسنح له فرصة التعبير الحر.
ثالثها: أن التجربة التونسية ليست جديرة بالاحترام فقط، بل جديرة بأن تـُقرأ من الإسلاميين – داخل تونس وخارجها – بعيون مفتوحة وعقول واعية، فهنا شعب خضع منذ الاستقلال (20/3/1956م) وحتى لحظة الانتخابات الأخيرة (منذ أيام)، أي من عهد "بورقيبة" وحتى عهد خليفته "بن علي" على شعارات مغايرة لسياق المؤسسة الدينية الشعبية بشقيها العلمي والصوفي، شعارات حكمت التعليم والإعلام والاقتصاد – حتى بلغت يوماً أن أراد بورقيبة تجميد فريضة الصيام باعتباره مؤثراً سلبياً على الانتاج – عقود أكلت جل سنوات القرن العشرين وزحفت إلى الربع الأول من القرن الواحد والعشرين، وما أن انزاح كابوس أصحابها حتى عبر الشعب عن انتمائه بشكل هادئ ومن خلال صناديق الاقتراع.
رابعها: إن الحفاظ على "الدولة" وعدم خروج "الثورة" إلى فوضى تدمير الدولة وإنهائها، أدى دوراً رئيساً في سلامة سير جل العملية الانتخابية، ولا أشك قط بأن ذلك مصداقاً لمقولة فقهائنا الذين دعوا منذ قرون ضاربة في التأريخ إلى استقرار المؤسسات التي سموها "سلطانية" بمعنى السلطة والدولة وليس بمعنى التسلط الفردي.
خامسها: إن الفكر الذي طرحته قيادة النهضة خلال فترة الامتحان الصعب داخل البلاد، وفترة الهجرة خارجها، بالإضافة إلى الجهود الاستثنائية التي بذلها شباب "النهضة" كذلك داخل البلاد وخارجها، كانت تزرع في أرض خصبة قابلة للتفهم مستعدة للتجاوب، وهذه نقطة ينبغي أن تشعر قيادة النهضة وكوادرها – على مستوى اتخاذ القرار – بالأمانة الثقيلة تجاه الناخب التونسي الذي قال بلسان الحال: "جربناهم وعرفناهم وهانحن نعطيكم الثقة فأبحروا بنا إلى شاطئ الأمان". ويعني كذلك أن "المشروع" وليس "الحزب" هو ما يحقق التلاحم بين الطلائعيين وجمهورهم.
 سادسها: من النقد الذي قيل همساً وعلناً، من بعض شباب النهضة، وممن خرج منها أو عليها: "كيف نترجم الكلام عن تداول السلطة، والحركة نفسها ما زالت تحمل نفس القيادة ونفس الرموز"! يقول البعض ذلك مشككاً في صدقية ما تقوله قيادة النهضة عن إيمانها بتداول السلطة، وبعضهم يقوله حرصاً على رؤية التطبيق العملي له. إن كثيراً من الشعارات تموت أمام ممارسة الواقع، لأن جل حركاتنا تقدم في زمن الجهاد والمحنة "حراسة الدين" على "سياسة الدنيا"، فيما يقتضي واقع الحكم والسلطة – أحياناً – تقديم "سياسة الدنيا" على "حراسة الدين" فيقع الخلل فيما بينهما. وهذه نقطة جوهرية لا تخفى على قيادة "النهضة" ولكنها تحتاج أن ترينا بأم العين كيف ستوازن بين "حراسة الدين" و"سياسة الدنيا" في تجربة تاريخية لا نتمنى لها النجاح فقط بل التعميم والانتشار. مع التنبه إلى أن الديمقراطية المعاصرة تلتقي مع الشورى الإسلامية في جوانب كثيرة وعلى رأسها – بالإضافة إلى تداول السلطة السلمي – أن الشعب هو صاحب الكلمة الأولى في اختيار قيادته.
سابعها: ما لا يخفيه المتخوفون والمتردودون، وما يعلنه المشككون والمخالفون، التقارب بين قيادة النهضة، والغنوشي تحديداً والقيادات الإسلامية الإيرانية والموالية لإيران، وهذه نقطة شديدة الحساسية في هذه اللحظات التأريخية من حياة الأمة. لأن الموضوع ليس موضوع الشعار الإسلامي والجهادي والتحرري واتخاذ أسباب القوة فقط، بل لأن هناك تعبئة مذهبية غبية على الضفتين تشحن النفوس بالتباعد والتنفير بالإضافة إلى مصالح "الدولة"، دولة إيران والدول التي تخالفها. ويرى المتابع لمجريات الأمور في عدد من أقطارنا كفلسطين ولبنان وسورية كيف تدار دفة الحكم والمعارضة فيها، وكيف يصطف الأفرقاء بحسب ارتباطهم العاطفي أو المادي مع هذا الطرف أو ذاك. وهذه علامة استفهام إضافية تحتاج إيضاحاً عملياً يقيم التوازن بين مصالح تونس وانتمائها.
ثامنها: خلال عهود طويلة، وبالرغم من شعارات "الجهاد" و"التحرر" من الاستعمار الفرنسي، إلا أن ما فعله النظام السياسي في عهدي بورقيبة وبن علي كان مزيداً من الارتباط والترابط مع الغرب ودوائره النافذة، ووصول النهضة إلى السلطة يعني كشف تفاصيل الارتباط وربما الارتهان للمصالح الغربية. ونحن نعلم علم اليقين أن الغرب لعب دوراً في المرحلة السابقة وأنه لن يقف مكتوف الأيدي أمام دولة على مرمى حجر من الجنوب الأوروبي، وهي أحد منافذ أفريقية وتدفق الهجرة منها باتجاه الشمال. وهذا ملف شائك آخر من ملفات الحكم في تونس وفي غيرها من دول العالم العربي لأسباب تأريخية وواقعية معاً.
تاسعها: إن حركة النهضة حركة تغييرية بطبيعة انتمائها العقدي والفكري والثقافي، وهي جزء من حركة الإسلام العالمي، ولديها التزامات تجاه شقيقاتها من الحركات الإسلامية والتحررية لاسيما ساحات الربيع العربي الولود، وإذا كان الإسلاميون قد وضعوا آمالاً عراضاً على تركية في العهد الأرباكاني ثم الأردوغاني فمن باب أولى أن يلتفتوا بآمال عريضة تجاه تونس في العهد الغنوشي، وهذا يعني تداخلاً في المصالح والمطالب والالتزامات السياسية والاقتصادية وربما أبعد من ذلك. إن السؤال عن ذلك سهل ولكن الإجابة عليه تحتاج الجمع بين صلابة أبي بكر، وإدارة عمر، وكرم عثمان وتقوى عليّ معاً، وهي معادلة لا يعرف صعوبتها إلا من ابتلاه الله بالعمل السياسي.
عاشرها: صحيح أن تونس قد انتخبت واختارت، وصحيح أن المجلس التشريعي القادم سيكون في جانب التوجه الإسلامي، ولكن تونس ذات الغالبية المسلمة ليست كلها إسلاميين، فبالإضافة إلى أديان أخرى – ينبغي ألا يستصغر حجمها – هناك تيارات سياسية وفكرية أخرى، وهناك منافقون، ووصوليون كأي مجتمع وأية دولة. وهناك بالمقابل متحمسون يريدون التغيير ولو بعملية جراحية. وما زرع خلال عقود سبع لا يمكن أن يستأصل خلال أيام، وفيما قرأناه في الفقه أن الفرائض وكذلك المحرمات تم تشريعها بتدرج وتسلسل مكن الناس من استيعابها وتطبيقها على الوجه الصحيح أو الأقرب إلى الصحة. إن الحماس المفضي إلى الاستعجال لم يصب ولن يصب قط في صالح التغيير بل قد يكون أحد مقاتل الإصلاح. ولست أشك أن التجربة الفاشلة ما هي إلا مسمار في نعش تجربة محتملة النجاح.
هذا، مع أصدق التمنيات للشعب التونسي وقيادته الناهضة بتحقيق الاستقرار والنجاح والتقدم.
* أكاديمي وكاتب لبناني مقيم في الكويت

السابق
ايخهورست: واثقون بأن الحكومة ستجد الحل للحفاظ على تعهداتها الدولية
التالي
“مركز الدكتور نزيه البزري الصحي” يتابع حالات مرضى السكري المقعدين