الديكتاتوريات لحماية الأقليات العربية!

إلى إشعار آخر، تظلّ الديكتاتوريات في أساس المآسي التي غرقت فيها الأقلّيات في كل أنحاء العالم العربي. وحدها الدولة المدنية العادلة الخالية من السلاح الميليشيوي والمذهبي تحمي الأقلية والأكثرية. وهذا يعني بكل وضوح أنه ليس صحيحا أن هناك خطرا على الأقليات مصدره الثورات العربية، أي «الربيع العربي». من يتذرع بما حصل في مصر حديثا لتبرير دعمه لهذا النظام الديكتاتوري أو ذاك في سورية أو غير سورية، لأسباب خاصة به على الأرجح، يتجاهل عن قصد أو قلة خبرة، على الأرجح، أن في أساس مشكلة الأقليات في العالم العربي غياب الديموقراطية والدولة المدنية التي يتساوى فيها المواطنون. في مثل هذه الدولة لا تستقوي طائفة على أخرى، لا باسم العدد ولا باسم السلاح المذهبي كما الحال في لبنان حاليا!

ما حصل في مصر، وهذا ما يفترض أن يستوعبه شخص مثل البطريرك الماروني الجديد في لبنان بشارة الراعي، نتيجة نحو ستة عقود من التراكمات أدّت إلى جعل الأقباط مواطنين من الدرجة الثانية. ترافق ذلك مع نشر ثقافة شوفينية في البداية، أيام جمال عبد الناصر، ثم تغلغل التطرف الديني في كل أجهزة الدولة من دون حسيب أو رقيب ايّام أنور السادات وصولا إلى مرحلة من الجمود في عهد حسني مبارك الذي لم يدرك يوما خطورة التحولات داخل المجتمع المصري معتقدا أن في الامكان معالجة التطرف عن طريق الحل الامني من جهة واسترضاء المكلفين نشر ثقافة رافضة لأي نوع من الاعتراف بالآخر والانفتاح على كلّ ما هو حضاري في العالم من جهة أخرى. 

في السنوات الثلاثين التي كان فيها حسني مبارك رئيسا، كان هناك اهتمام بالقشور هربا من الواقع الأليم المتمثل في نموّ الفقر وزيادة عدد السكان وهبوط مستوى التعليم. كانت الصحف ووسائل الإعلام الأخرى تعبّر، مع بعض الاستثناءات طبعا، عن رغبة في جعل المجتمع المصري منغلقا على نفسه أكثر فأكثر. أصبح المجتمع متخلّفا إلى حد كبير، هذا اذا وضعنا جانبا طبقة جديدة من الأغنياء، لم تحاول في ايّ وقت تمويل مشروع جدّي يهدف إلى نشر ثقافة مختلفة تقوم على احترام الآخر ونشر القيم الديموقراطية، اي تلك التي يفترض أن تسود في اي مجتمع مدني. كانت هناك بعض الجزر في أوساط المثقفين والفنانين والإعلاميين المصريين تسعى إلى إعادة انتاج ثقافة الحياة في مصر ولكن من دون تحقيق نتائج تذكر إلاّ في دوائر وأوساط ضيقة جدا.
جاءت المجزرة التي تعرّض لها الأقباط في القاهرة اخيرا تتويجا لسنوات طويلة من القمع مارسه نظام ديكتاتوري لم يستطع في أي وقت استيعاب معنى خروج الجاليات الأجنبية من القاهرة والاسكندية وبور سعيد ومدن أخرى في مرحلة معينة. فرح النظام في مصر برحيل الجاليات الاجنبية في عهد عبد الناصر. أدّى ذلك إلى تصحّر تدريجي للمدن المصرية التي كانت في ما مضى مدنا كوزموبوليتية غنية بانتاجها الثقافي والتفاعل الحقيقي بين الأديان بعيدا عن أي نوع من التزمت. صارت الصحراء هي التي تؤثر في المجتمع المصري وتعمل على تغييره، بعدما كان المجتمع المصري المنفتح على العالم والذي يشرب من ماء النيل يؤثر في الصحراء ويعمل على تغييرها…

على الرغم من المأساة التي تعرّض لها الاقباط اخيرا في ماسبيرو، قرب مبنى التلفزيون المصري، وعلى الرغم من أنه لا يمكن إلاّ إدانة المجزرة باشدّ العبارات، لا يمكن في الوقت نفسه تجاهل أن قضية الأقباط في مصر ما كانت لتصبح قضية علنية لولا ثورة الخامس والعشرين من يناير. لو لم يصل الربيع العربي إلى مصر، لما كان الأقباط تجرّأوا على التظاهر والاعلان صراحة أنهم مظلومون وأنهم يعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية. كان المشهد نفسه الذي تلا تفجير كنيسة القديسين في الاسكندرية ليلة رأس السنة الماضية سيتكرّر. كان سيتكررالكلام عن مجرم مجهول… ولكن سيلقى القبض عليه قريبا!

صحيح أن المؤسسة العسكرية والأمنية في مصر لا تزال ترفض تحمل جانب من مسؤولية ما حصل في ماسبيرو، لكنّ الصحيح ايضا أنه خلافا لما جرى بعد تفجير كنيسة القديسين في الاسكندرية، قد يصل التحقيق في مجزرة ماسبيرو إلى نتائج خلال فترة معقولة. فالموضوع لم يعد موضوع الأقباط وحدهم. الموضوع صار موضوع مصر ومستقبل مصر. هل تتحوّل مصر إلى دولة طبيعية فيها مجتمع مدني حقيقي ومؤسسات ديموقراطية أم يستمرّ التآكل من داخل، هذا التآكل الذي تسببت به سنوات طويلة من الديكتاتورية ولّدها انقلاب العام 1952 الذي سمّي «ثورة يوليو».

ليست مصر وحدها التي تتغيّر. ليست مصر وحدها التي بدأت تطرح فيها مواضيع كان ممنوعا التحدث عنها في الماضي. في كلّ مكان من العالم العربي، هناك كلام علني أحيانا وهمس في أحيان أخرى عن ضرورة التغيير. لبنان نفسه، الذي حافظ مجتمعه على الحريات بفضل التنوع، عرف كيف يطلق الربيع العربي عن طريق «ثورة الارز» وكيف يتكيف معه بعدما أصابت العدوى دولا عربية أخرى. ولذلك، شهدنا قبل ايام في بيروت انطلاق «تجمع لبنان المدني». بين الذين لعبوا دورا في إطلاق التجمع شاب شيعي اسمه مالك كامل مروة يؤمن بالدولة اللبنانية ولبنان العربي، أي «الدولة المدنية الديموقراطية السيدة على حدودها وداخل حدودها». ويؤمن، حسب البيان التأسيسي للتجمع، بأن «أيّ وهم بخلاص فئوي تسعى اليه الجماعات اللبنانية كلّ بمفردها ليس مغامرة فحسب، بل هو مشروع انتحاري يدمّر أصحابه قبل سواهم».

كانت إلى جانب مالك مروة عشرات الشخصيات الشيعية والمسيحية والسنية والدرزية. كانت الرسالة الخارجة من بيروت واضحة كلّ الوضوح. فحوى الرسالة أن لبنان لا يخاف الربيع العربي بل أن حراك المجتمع المدني فيه، بما في ذلك المجتمع الشيعي، يصب في رفض هيمنة الحزب الواحد على الطائفة.
هناك استيعاب واضح لدى مجموعة كبيرة من شيعة لبنان لمدى خطورة «المشاريع المذهبية» بكل اشكالها على لبنان ووحدته. هذا ما نبه إليه أيضا البيان التأسيسي للتجمع الذي يريد أن يكون «قوى وتحالفات خارقة للطوائف» وأن يؤكد أيضا أن لا بديل من الدولة المدنية لا في مصر ولا في لبنان ولا في سورية ولا في العراق.
كلّ كلام عن خوف على الأقليات من الربيع العربي مرفوض. أنه كلام يصب في العجز عن استيعاب أن ما قتل المسيحيين في العراق هو اضطرارهم إلى الاحتماء بنظام ديكتاتوري دموي قضى على النسيج الاجتماعي للبلد، وذلك قبل ان تستولي الميليشيات المذهبية المدعومة من النظام في ايران على مقدرات العراق.

أمّا أكثر ما أساء إلى مسيحيي لبنان ومستقبلهم فهو السلاح الذي لم يتوقف النظام السوري عن إرساله إلى البلد منذ ما يزيد على أربعين عاما. وما يمكن أن يقضي على مسيحيي سورية الربط بينهم وبين نظام لا يؤمن سوى بالغاء آخر.
في وقت، يؤكد فيه اللبنانيون الواعون، من كل الطوائف والمذاهب والمناطق، أنهم جزء لا يتجزّأ من الربيع العربي، هناك من يدعو بوقاحة، ليس بعدها وقاحة، إلى إعادة عقارب الساعة إلى خلف. إلى مرحلة لم يكن فيها القبطي يستطيع القول انه قبطي، وانه يطمح إلى دولة مدنية يتساوى فيها الجميع بديلا من دولة العسكر والأجهزة الأمنية.
 

السابق
صيت مش اكثر!!
التالي
الانباء: تزايد المخاوف من استمرار التوتر داخل الحكومة