غريب..

تفسير الأمر يحتاج بالتأكيد، الى شيء آخر غير القراءة في السياسة والمصالح والقصة المألوفة عن السلطة ومغرياتها ومغانمها.
عشية الغزو الأميركي للعراق، وصل موفدون كثر الى بغداد، عرب وغير عرب، من أجل محاولة إقناع الرئيس العراقي بالتنازل عن السلطة والرحيل مع عائلته وربعه ومن يختار وما يختار من مال وغيره، من أجل تجنيب البلاد ويلات الحرب التي تأكد للجميع أنها تقررت لتحطيم النظام ورأسه.
بعض الموفدين، أو جُلّهم، كان من أصدقاء صدام حسين وبلاده، ويتمتع بصدقية رفيعة المستوى. لكن الازدراء والنكران والمكابرة كانت في انتظارهم جميعاً. بحيث إن ما كان واضحاً عندهم، كان مغبّشاً عند صدام. وما كان أكيداً عندهم، كان احتمالاً عند صدام. وما كان مرتقباً عندهم، كان افتراضياً عند صدام. وبدا الأمر، ولا يزال، أفظع من أن يُصدّق: تفتدي العراق بنظامك. قيل له. وتحفظ ما تبقى من إمكانات لم تدمرها الحروب والعقوبات الاقتصادية والحصار التام. والأهم تحفظ العراقيين من ويلات كبيرات سبق وعاشوها و"ماتوها" في السنوات الماضيات.. ثم الأهم من الأهم هو ان السلامة الشخصية لك ولعائلتك ولأقاربك والخلاّن مؤمنة.. خارج العراق!

بعض الموفدين تعرض لبهدلة مشهودة، مثل الروسي بريماكوف وطُرد (تقريباً) من بغداد. وبعض آخر لم يُذَع نبأ وصوله أو مغادرته أصلاً. وبعض ثالث على ما قال ثقات آنذاك، وصل لكن لم يتجرأ على تبليغ الرسالة.
..والنتيجة معروفة ولم تنتهِ كل آثارها الى اليوم: بدءاً بمصير صدام وأولاده وأحفاده وعائلته في الإجمال، وصولاً الى العراق والعراقيين والنكبات التي لا تعرف نهاية لها.
 
القصة تكررت مع العقيد الليبي الذي توقّع العالم كله مصيره المرتقب إلا هو. والذي رأى العالم كله الآتي عليه وعلى ليبيا إلا هو..
وتصغير الأمر بدلاً من تكبيره يدفع الى الآتي: أي شخص، كبيراً كان أم صغيراً، حاكماً أو محكوماً، غنياً أو فقيراً، مفطور حُكماً وضرورة (ومبدئياً) على حماية نفسه وأهل بيته وأولاده تحديداً.. طريقة تفكيره أساساً، تتخذ منحى آخر مختلفاً تماماً عنها في حال كان وحيداً أعزب أو من دون أولاد. وفي لحظة الخطر واحتمالاته، تطفو غريزة الأبوة، كما الأمومة، على ما عداها، وتقترب من العقل وأحكامه وتفرز في نتيجتها الأخيرة، أحكاماً وأفعالاً لا تخالف منطق البقاء والسلامة.
..عند العقيد كان الأمر غير ذلك، تماماً كما كان عند صدام. وكما هو حتى الآن، عند أمثالهما وأضرابهما في دنيا العرب.

ما هذه القصة الغريبة! الاعتداد بالذات يقف عند حدود الخطر بانعدامها. وقمة ذلك الاعتداد هي الحصول على السلطة. لكن كيف يصير التماهي مطلقاً الى ذلك الحد، بين تلك السلطة والمصير الشخصي والعائلي؟ السلطة طريق الى رفعة ذاتية، حقيقية أم وهمية لا فرق، ولكن إذا كانت أثمانها هي الحياة نفسها فما نفعها؟!
أي بلاء هذا! تضخّم أنوي لا حدود له. يدمّر الشأن الوطني العام بكل عناوينه وأبعاده، ويبقى الأمر معقولاً (؟) أو ممكن التفسير. لكن تدمير الذات المقصود حمايتها ورفعتها من خلال الإمساك بالسلطة، بسبب تلك السلطة، أمرٌ جلل. تفسيره أكبر من عجالة سريعة، وأبعد مدى من الركون المطمئن الى السياسة والمال والتجبر والتحكم!
..القصة على ما يبدو، هي قصة "أنصاف آلهة" بالفعل! ونحن البشر العاديين غُفّل عنها! وإلا ما هو تفسير ما يحصل!؟ يا ساتر يا رب.

السابق
إعادة المفتي
التالي
التقاء المحامين في مقر نقابة المحامين في النبطية